الاثنين، 18 مارس 2024

 

 

المسرح في العصر الوسيط


الأستاذ عبد الواحد المرابط

 

يقع العصر الوسيط بين العصر القديم والعصر الحديث، حيث بدأ مع سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس وامتد إلى القرن الخامس عشر. وهو يُقَسَّم عادة إلى ثلاث مراحل: العصر الوسيط الأول (قـ 5- 10)، والعصر الوسيط المركزي (قـ 11- 13)، والعصر الوسيط المتأخر (قـ 14- 15). وقد عرف هذا العصر سيطرةَ الكنيسة على مختلف مظاهر الحياة في أوروبا، من خلال نظام فيودالي إقطاعي يقوده النبلاء بتزكية رجال الدين.

عملت الكنيسة في القرون الأولى من هذا العصر على إخماد شعلة المسرح وغيره من الآداب والفنون، حيث أُدين الممثلون والمشتغلون بالمسرح، وحُشِروا في زمرة المارقين والمنبوذين واللصوص والعاهرات، بل حُرموا من دخول الكنائس ومن مناولة القربان المقدس. فقد حورِبت التقاليد الإغريقية والرومانية لِما فيها من مظاهر وثنية مخالفة للتعاليم المسيحية، فأُغلِقَت المسارح واعتُبِر التمثيلُ والتصوير والنحت والغناء والرقص خَطايا تستوجب العقاب في الدنيا وفي الآخرة.

غير أن رجال الدين انتبهوا في ما بعد إلى الدور الذي يمكن أن يلعبه المسرح في تعبئة الناس وترسيخ شعورهم الديني؛ لذلك شرعوا - ابتداء من القرنين الثامن والتاسع - يقدمون مسرحيات يمررون من خلالها القصص الدينية الإنجيلية والمواعظ الأخلاقية وطقوس الصلاة والعبادة، فَحَلَّ الكتابُ المقدس محل المصادر الأسطورية والملحمية التي كان المسرح ينهل منها في العهدين الإغريقي والروماني، وصار الموضوع المحوري للمسرح الوسيط هو آلام المسيح وتضحياته من أجل خلاص الإنسان.

وكانت هذه العروض الدينية في البداية تُقَدَّم داخل الكنائس والكاتدرائيات، خلال أعياد ميلاد المسيح وأعياد الفصح وأعياد الخميس النصرانية، فأصبح المسرح جزءا مُكَمِّلًا للصلاة والتَّعَبُّد، يستحضر قصة الخلق وسِيَرَ الأنبياء والقديسين. وكان هذا المسرح يُقدَّم للمؤمنين من خلال حوارات وأناشيد يضطلع بأدائها الرهبان والقساوسة.

ولما استقطب هذا المسرح الديني جمهورا واسعا لم تعد فضاءات العبادة تستوعبه، خرج به الرهبان إلى الساحات العامة، وهناك عرف - تدريجيا - بعض التحولات التي مست شكله ومضمونه، حيث بدأ يُزاوج بين المحتويات الدينية والدنيوية، ويستقطب مؤلِّفين غير الرهبان، فتسربت إلى حواراته اللغاتُ العامية وبعضُ الأفكار الإصلاحية، وظهر الممثلون المحترِفون، وشُيِّدت السِّقالات الخشبية لمنصة التمثيل ومقاعد الجمهور. وقد صب ذلك في صالح الحركات البروتِستانية المناهضة للتقاليد الكاتوليكية، فبدأت الجماهير تتذوق الجوانب الفنية والجمالية للمسرح، فضلا عن جوانبه الدينية.

وفي موازاة هذا المسرح الديني، نما نوع من المسرح الدُّنَيَوي، ابتعد - إلى حد ما - عن الدراما الطقسية، واتجه نحو الحكايات الشعبية والغناء والرقص واللعب البهلواني. ظهر هذا الشكل في بداية الأمر داخل قصور الأغنياء ورجال الدولة، حيث تنتهي الحفلات بعروض مسرحية تمثل قصصا طريفة وتجسد شخصيات نمطية مُضحكة وحوارات هزلية، فضلا عن النُّكَت الساخرة والحركات البهلوانية. وفي هذا السياق تطورت فنون العرض، من تعبير جسدي صامت (ميم (Mine) وبانتوميم (Pantomime)) وبهلوان (acrobate) وتلاعب جسدي (Jongleurs) وسيرك (Cirque) وغير ذلك... وقد تعامل رجال الدين مع هذا المسرح بنوع من التحفظ دون أن يستطيعوا مُصادَرَتَه احتراما لحِلْف السياسة والدين؛ فكانوا يحضرون الولائم التي يُدْعَون إليها، ثم ينسحبون قبل بداية العروض. وخارج قصور الأغنياء، بدأت تظهر مسارح شعبية متنقلة تجوب القرى والمدن، وتقدم عروضَها الهزلية فوق العربات التي تتحول إلى منصات للتمثيل.

خلاصة الأمر أن العصر الوسيط عرف نوعين من المسرح: مسرح ديني طقسي (liturgique) نشأ في الكنائس والكاتدرائيات وامتد إلى الساحات العمومية، يشرف عليه الرهبان والقساوسة؛ ومسرح دُنْيَوي (profane) نشأ في قصور الأثرياء ورجال السلطة، وعند الفِرَق المتجولة بين المدن والقرى. وقد خضع كل نوع منهما لمسار من التطور التدريجي، فتغيرت محتوياته وأشكاله على مدى القرون، تمهيدا لمسرح عصر النهضة.

فقد تطور المسرح الطقسي، داخل الكنائس وخارجها، ليفرز ثلاثة أنواع من المسرحيات الدينية: مسرحيات الأسرار (Mystères)، ومسرحيات المعجزات والخوارق (Miracles)، ومسرحيات الأخلاق (moralités): الأولى كانت تعرض حياة المسيح وعذاباته انطلاقا من الكتاب المقدس (العهد القديم والعهد الجديد)؛ والثانية كانت تعرض حياة القديسين وكراماتهم، بدءا بقصة مريم العذراء؛ والثالثة كانت تُشَخِّص حكايات تعليمية أخلاقية للوعظ والإرشاد الديني.

من المسرحيات الدينية التي وصلتنا، "زيارة المقبرة" (Visitatio Sepulchr) للراهب الإنجليزي سانت إيتلوود (Saint Ethelwold) من القرن العاشر، وهي تشخص قصة قِدِّيسات ذهبن لزيارة قبر المسيح، فظهرت الملائكة وأوحت لهن بأسرار إلهية؛ ومسرحية "القديس نيكولا" (li Jus de saint Nicholai) للشاعر جون بوديل (Jean Bodel) من القرن الثاني عشر، وهي تعرض كرامات هذا القديس وقدرته على التبشير؛ و"تمثيلية آدم" (Le Jeu d'Adam) لمؤلف مجهول من القرن الثاني عشر، وهي تجمع بين الأناشيد الدينية اللاتينية والحوارات الفرنسية، وتشخص خطيئةَ آدم وحواء وخروجَهما من الجنة، وقصةَ قتل قابيل لأخيه هابيل، ثم تَعاقبَ الأنبياء المُخَلِّصين وصولا إلى السيد المسيح؛ ومسرحية "معجزات تْيوفيل" (Miracles de Théophile) للكاتب الفرنسي روتْبوف (Rutebeuf) من القرن الثالث عشر، وهي مستوحاة من سيرة قديس باع نفسه للشيطان ليسترد أمواله التي سلبه إياها أحد الأساقفة، لكنه لم يفلح في ذلك فندم وطلب المغفرة من السيدة العذراء؛ ومسرحية "كل إنسان" لمؤلِّف مجهول من أواخر القرن الخامس عشر، وهي تعرض شخصيات ترمز بكل منها لصفة من الصفات المجردة: فشخصية "كل إنسان" رجل ثري يستدعيه الموت فجأة للمثول أمام الله من أجل محاسبته، فطلب من أهله وأصحابه أن يرافقوه في رحلته لكنهم رفضوا وتخلوا عنه، وطلب من "المعرفة" أن تصاحبه لكنها رفضت واكتفت بأن تنصحه بالاعتراف أمام الله. وفي الأخير تبرع بثروته في سبيل الخير، ودخل الإيمان قلبه، وحين دخل إلى قبره وجد "العمل الصالح" يرافقه ويدخل معه. فالعمل الصالح في نهاية المطاف هو المخلص. وتشكل هذه المسرحية نموذجا للتوجيه الديني والأخلاقي من منظور الكنيسة الكاتوليكية في العصور الوسطى.

أما المسرح الدنيوي، فقد وصلتنا منه مسرحيات عديدة، منها مسرحية "السيد بّاثْلان" (la Farce de Maître Pathelin) لكاتب فرنسي مجهول من القرن الخامس عشر. وهي تحكي عن محام ذكي محتال وَكَّلَه راعٍ اتهمه سيدُه بسرقة خِرفان، فاشترط المحامي على المتهم أن يصمت في المحكمة وألا يجيب عن أسئلة القاضي والمُدَّعي إلا بالثُّغاء (أي بصوت الخرفان). ولما نجحت هذه الحيلة وبُرِّئَ المتهمُ، طلب منه المحامي أداء الأتعاب، فلم يسمع منه إلا الثُّغاء.

 

من المسرح الديني في العصر الوسيط

Description : Le théâtre au moyen-âge - ppt video online télécharger

 

 

من المسرح الدنيوي في العصر الوسيط

Description : Chroniques du Moyen Age: Le Théâtre au Moyen âge

 


الجمعة، 15 مارس 2024

 


 المسرح في الحضارات القديمة

الأستاذ عبد الواحد المرابط


1. المسرح المصري القديم

عرفت مصر القديمة في عهد الفراعنة عروضا تمثيلية ذات طابع ديني مرتبط بأسطورة "إيزيس وأوزوريس". وكانت هذه العروض تُقَدَّم في الحفلات الدينية والطقوس الجنائزية الفرعونية، حيث يَعْمَدُ كهنةُ معبد "أمون رع" (Amon-Rê) إلى تشخيص الحكايات الدينية أمام الحُكّام والأمراء والنبلاء، مستعينين في ذلك باللغة الشعرية والحركات الجسدية والغناء والابتهالات والأقنعة والمساحيق والملابس والأَكْسُسْوارات. وبموازاة هذه العروض النُّخْبَوِيَّة، عرفت مصرُ تلك الحقبة عروضا شعبية كانت تقدمها فِرَقٌ جوالة تطوف بين المدن والقرى، وهي تشمل الرقص والموسيقى والتمثيل والطرائف المضحكة...

تَمَّ العثور، في ثلاثينيات القرن العشرين، على نصوص درامية مكتوبة على أوراق البردي (Papyrus)، تتضمن مسرحيات كتبها مُؤلِّفو مصر القديمة؛ منها مسرحية "انتصار حورس" و"بعث أوزيريس" و"ميلاد حورُس وتأليهه" و"هزيمة ثابوفيس" و"معركة تحوت وأبوفيس" و"إيزيريس وعقاربها السبعة" و"عودة سِت"...

معظم تلك المسرحيات كانت تُعيد تشخيصَ أسطورة "إيزيس وأوزوريس" التي تقوم عليها الديانةُ الفرعونية. وتحكي هذه الأسطورة قصة الفرعون/ الإله أوزيريس (Osiris) الذي قتله أخوه الأصغر سيتْ (Seth) وقطَّع جثته اثنتين وأربعين قطعة وَزَّعَها على أقاليم مصر، لكن إيزيسْ (Isis) جمعت قِطَعَ زوجها أوزيريس وحاولت إعادته إلى الحياة، كما أنها أنجبت طفلَها حورُسْ (Horus) الذي سرعان ما شَبَّ فحارب سيتْ وقتله انتقاما لأبيه، وأعاد النظام لمصر.

ويمكن أن نتبين بعض خصوصيات هذا المسرح المصري (الفرعوني) القديم من خلال مسرحية "انتصار حورُس" المشار إليها سابقا؛ وذلك بصفتها نصا كاملا قائما بذاته، وأقدم مسرحية مكتوبة في العالم.

ورغم أن هذه النصوص المصرية القديمة كانت تتضمن عناصر الدراما المسرحية، فقد بقيت محافظة على طابعها الطَّقْسي الديني ومرتبطة بعبادة الإله "أمون" (Amon-Rê)؛ لذلك لم تتطور في ما بعد لتفرز عروضا مسرحية ذات منحى فني وجمالي.

2. مسرح الشرق الأقصى القديم

عرف الشرق القديم أشكالا فرجوية عديدة، ارتبطت عند شعوبه بالطقوس الدينية الهندوسية والبودية والكونفوشيوسية، منها طقوس ديانة "الشينتو” (Shinto) في الصين واليابان، وطقوس الديانتين البراهمانية والطاوية في الهند.

اتخذت تلك العروض في اليابان والصين شكل رقصات وابتهالات وتعبيرات جسدية ذات بعد ديني، بالإضافة إلى تمثيليات شعبية مُسَلِّية. فقد شاعت في تلك البلاد عروض فرجوية تُسمى "الكاكورا” (Kagura)، وهي عروض راقصة كانت في أصلها تُقدَّم للترفيه على الآلهة، لكنها بدأت تفقد بُعْدَها الديني لتتخذ منحى فنيا وجمالية في القرن العاشر الميلادي، فتفرع عنها مسرح "النو" () و"الكابوكي" (Kabuki) و"الكْيوكين" (Kyōgen) و"البونْراكو" (Bunraku) و"الأوبِّرا الصينية" و"مسرح الدمى" التقليدي (Buntaku)... فالنو يعتمد الموسيقى والرقص، والكابوكي يعتمد الدراما والموسيقى والرقص، والكيوكن مسرح هزلي ساخر، والبونراكو مسرح دُمى.

وعرف المسرح الهندي القديم عروضا تمثيلية مستوحاة من أحداث ملحمتَي "الماهابْهاراتا” (Mahabharata) و"الرَّمايانا" (Râmâyana) السَّنْسْكْريتيتين، المرتبطتين بكتاب "الفيدا" (Vida) المقدس، وبسِيَر الآلهة والملوك والحكماء.

من الأشكال المسرحية الهندية القديمة مسرح "الكاتاكالي" (Kathakali)، وهو عرض راقص يتضمن الغناء والحوار والتشخيص، تَأَتّى عن عروض دينية طقسية، منها عرض "كْريشْنانَتام" (Krishnanattam) الذي يمثل حياة الملك/ الإله "كْريشْنا" (Krishna)، وعرض "راماناتام" (Rāmanāṭṭaṃ) الذي يمثل حياة الملك الأسطوري "راما" (Rāma). وقد كانت تلك العروض توظف الغناء والتراتيل والرقص والتعبيرات الجسدية والموسيقى والتشخيص والأقنعة وغير ذلك من عناصر الفرجة المسرحية، فضلا عن التراتيل والابتهالات الدينية.

وقد احتفظ التاريخ بكتاب هندي قديم حول قواعد المسرح وفنون العرض، يعود إلى الحكيم العالِم "بْهاراتا" (Bharata)، الذي أملاه شفويا في القرن الثاني قبل الميلاد، ولم يُدَوَّن إلا في القرن السادس الميلادي، تحت عنوان "ناتْيا شاسْترا" (Nātya Shastra) ("ناتيا" تعني الرقص والتشخيص الجسدي، و"شاسْترا" تعني القانون في اللغة السنسكريتية القديمة). ويُحكى أن أصل الكتاب أسرارٌ أفضى بها الإله "بْراهْما" (Brahmâ) إلى الحكيم "بْهاراتا" ليبين للناس كيف ينجزون العروض المسرحية. ويتضمن هذا الكتاب تعليمات وتفاصيل حول التمثيل والغناء والمشاهد والمواقف الدرامية وغير ذلك من مستلزمات العرض المسرحي.

 من المسرحيات الهندية القديمة، التي احتفظ التاريخ بنصوصها كاملة، مسرحياتُ "أشفاكوشا" (Ashvaghosha ) شاعر بلاط الملك "كانيشْكا" (Kanishka)، ومسرحيات "بْهاسا" (Bhasa )، ومسرحيات "كاليداسا" (Kãlidãsa). وهي تعود إلى القرون الميلادية الأربعة الأولى، لكنها وثيقة الصلة بالتقاليد القديمة وبملحمتَي الماهابْهارتا والرمايانا.

3. المسرح الإغريقي القديم

يعود أصل المسرح الإغريقي إلى "الدِّيثرامْبوس" (Dithyrambe)، وهو عبارة عن أناشيد دينية مصحوبة بالعزف على الناي وبرقصات جسدية، كانت تُقام تمجيدا للإله دْيونيزوس (Dionysos) مرتين في السنة، مرة في الشتاء (يناير وفبراير) ومرة في الربيع (مارس وأبريل). ففي الموسم الأول كان الناس يجتمعون في طقس رهيب، يستمعون لجوقة من الرجال تؤدي الأناشيد والابتهالات والأدعية، ويشاهدون مناسك تقديم القرابين، التي هي عبارة عن ماعِز (trágos). ومن هنا اشتُقَّ مصطلح "تراجيديا" (tragôidía) الإغريقي الذي يعني "صوت الماعز"، والذي صار في ما بعد يدل على مسرحيات مأساوية تجسد صراع الأبطال من الآهة وأنصاف الآلهة والبشر الخارقين. وفي الموسم الثاني، الذي هو موسم الحصاد وجني محاصيل العنب والغلال الزراعية، يُقام موسم لشكر الإله دْيونيزوس، وتُسَيَّرُ نحو معبده مواكبُ من الناس الثَّمِلين تسمى "الكوموس" (komos)، في جو من الفرح والانشراح والموسيقى والرقص. ومن هنا اشْتُقَّ مصطلح "كوميديا" (kômôidía) الذي يعني "صوت الموكب"، والذي صار في ما بعد يدل على المسرحيات الهزلية.

وقد تطورت هذه الطقوس الدينية (التراجيدية والكوميدية) تدريجيا إلى أن أصبحت فرجات شعبية وجماهيرية يتم الإعداد لها بعناية، حيت يتكفل الأثرياء بتمويلها، وتسهر عليها الدولة ورجال السياسة. وفي سياق هذا التطور بدت مظاهر الدراما المسرحية لتضفي على تلك الطقوس طابعا فنيا وجماليا، دون أن تُفْقِدَها بُعْدَها الديني. ومن تلك المظاهر تنظيم مباريات لاختيار النصوص الجديرة بأن تُعْتَمد في إنشاد الجوقة (أي الكورس) (Choros) (Chœur)، وبناء مدرجات خاصة يجلس عليها المتفرجون قُبالة منصةٍ يقف عليها الممثلون. ومن ذلك أيضا اعتماد نصوص اختار مؤلفوها فَصْلَ رَجُل (ممثل) عن الجوقة ليضطلع بحوار يوجهه إليها، مما شجع مؤلفين آخرين على فَصْلِ رَجُلَيْن آخرين، فانتهى الأمر بثلاثة ممثلين يشخصون الأدوار المختلفة ويتبادلون الحوارات في ما بينهم، بالإضافة إلى الجوقة التي تضطلع بسرد الوقائع وإنشاد الأشعار.

من كُتّاب المسرح الإغريقي البارزين، الذين احتفظ لنا التاريخ ببعض نصوصهم، خمسة عاشوا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد؛ ثلاثة منهم ألَّفوا مسرحيات تراجيدية تستوحي أحداثَها وشخصياتها - في الغالب - من الأساطير والملاحم والأحداث التاريخية الكبرى المذكورة في ملحمتَي "الإلْيادة" (Iliade) و"الأوديسّا" (l'Odyssée) اللتين دَوَّنَهُما الشاعر هوميروس (Homère) سابقا، وهم "إسْخِلوس" (Eschyle) (تـ 456-) و"سوفوكْليس" (Sophocle) (تـ 405-) و"يوريبّيديس" (Euripide) (تـ 406-)؛ واثنان ألَّفا مسرحيات كوميدية تستوحي شخوصَها – في الغالب – من الأوضاع السياسية والاجتماعية ومن سلوكات الأفراد المنحرفين، وهما "أرِسْطوفانيس" (Aristophane) (تـ 386-) و"مينانْدْر" (Ménandre) (تـ 293-):

ألَّف إسخلوس أكثر من ثمانين مسرحية، احتفظ التاريخ بأربع منها كاملة، هي مسرحية "الفرس" ومسرحية "أكامَمْنون" ومسرحية "حاملات القرابين" ومسرحية "الضارعات"؛ وألَّف سوفوكليس ثلاثا وعشرين ومئة مسرحية، بقيت منها سبع كاملة، هي "أنتيكونة" و"أجاكس" و"الطراشينيات" و"أوديب ملكا" و"فيلوكْتيت" و"إليكترا" و"أوديب في كولون"؛ وألَّف يوريبّيديس اثنتَي وتسعين مسرحية بقيت منها تسع عشرة كاملة، نذكر منها "ألسيسْت" و"ميدي" و"أوندروماك" و"هِراكليس" و"إيون" و"إليكترا"؛ وألَّف "أرسطوفانيس" أربعا وأربعين مسرحية، بقيت منها إحدى عشرة كاملة، هي "أهل أخارناي" و"الفرسان" و"السُّحُب" و"الزنابير" و"السلام" و"الطيور" و"ليزيستراطا" و"النساء المحتفلات بأعياد التيسموفوريا" و"الضفاضع" و"برلمان النساء" و"بّْلوتوس"؛ وألَّف مينانْدْر مئة وثماني مسرحيات، لم يبق منها إلا مقاطع دالة.

وانطلاقا من نصوص هؤلاء الكتاب الكبار، تَرَسَّخَتْ تقاليد الممارسة المسرحية عند الإغريق، فأصبحت التراجيديا تقوم من الناحية التقنية على الأجزاء التالية: البّْرولوك (Prologue)، وهو المقدمة التي تسرد للجمهور الأحداث السابقة على ما ستقدمه المسرحية؛ والبّارودوس (Parodos) وهو غناء الجوقة عند دخولها؛ والسّْطاسيمون (Stasimon)، وهو الغناء الذي يفصل بين أجزاء الحدث، والمشاهد (أو الحلقات) (Epeisodos) التي تعرض الأحداث من خلال الحوار بين الشخصيات؛ و"الإكْزودوس" (Exodos) الذي هو خروج الجوقة. أما موضوعات التراجيديا فتقوم على طيمتي "القَدَر" و"المَصير"، حيث تعاقب الآلهةُ البشرَ على أخطائهم، حتى وإن كانت قديمة ارتكبتها الأجيال السابقة، وحتى وإن كانت قد ارتُكِبت بطريقة غير إرادية وغير مقصودة؛ وفي المقابل يحاول الأبطال تغييرَ مصائرِهم والوقوفَ في وجه الأقدار، كما فعل لايوس وأوديب في مسرحية سوفوكل، وكما فعل بروميثوس في إحدى مسرحيات إسخِلوس.

 أما الشكل الذي استقرت عليه الكوميديا الإغريقية فهو يقوم على الأجزاء التالية: البّرولوك، والبّارودوس، والصراع (agn) بين البطل وخصمه أو خصومه، والرسالة (parábasis ) الموجَّهة إلى الجمهور من قِبَل الجوقة، ومشاهد انتصار البطل، والخروج. وهي قريبة إلى حد ما من أجزاء التراجيديا، غير أنها تقدم سمات الإنسان العادي وتُشَخِّصُ ضَعْفَه وتَهَوُّرَه وحماقاته، في جو من الضحك والسخرية الهادفة إلى الموعظة الأخلاقية.

4. المسرح الروماني القديم

ورث الرومان تقاليد المسرح الإغريقي، لاعتبارات تاريخية وجغرافية وحضارية، لكنهم أضافوا إليها ما يناسب ثقافتهم وديانتهم ودولتهم العسكرية ذات الطابع الإمبراطوري. وقد بلغ المسرح الروماني أَوْجَه بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الأول الميلادي، مع "لوكْيوس سينيكا" (Sénèque) (تـ 65+) في مجال التراجيديا، ومع "بّْلاوْتوس" (Plaute) (تـ 184-) و"تيرنتيوس" (Térence) (تـ 159+) في مجال الكوميديا.

احتفظ التاريخ بتسع من مسرحيات سينيكا، هي "ميديا" و"الطرواديون" و"أوديب" و"هرقل غاضبا" و"فايدرا" و"تييست" و"أكاممنون" و"هرقل في أوطا" و"الفينيقيون". وقد كُتبت معظم هذه المسرحيات على غرار التراجيديات الإغريقية، إذ تضمنت الجوقة وثلاث شخصيات رئيسية، واستوحت الأساطير والملاحم، غير أن سينيكا أعطى للحوارات طابعا خطابيا وشحنها بالتأملات الفلسفية، انسجاما مع ثقافته البلاغية والفلسفية.

أما بّْلاوْتوس فقد كتب إحدى وعشرين مسرحية، منها "أُومفيتْرِيون" و"أوليلارْيا" و"الإخوة مينايْشمي" و"العائد" و"الجندي المتبجح" و"القرطاجيون". وقد استفاد في هذه المسرحيات من تقنيات الكوميديا الإغريقية، وكَيَّفها وفق الطقوس والتقاليد الرومانية، كما أنه اعتمد الشخصيات النمطية من قبيل البخيل والمخدوع والمتكبر ، فصوَّرها تصويرا ساخرا بهدف تقويم سلوك الناس.

وأما تيرنتيوس فقد ترك خمس مسرحيات، هي "أندريا" و"القائد" و"الأخ" و"المخصي" و"ضحية نفسه". وقد كان في هذه المسرحيات يميل إلى التَّوْرِيَّة وإلى السخرية اللّاذعة والتصوير الكاريكاتوري للشخصيات والواقع، وتصوير الحياة الشخصية والاجتماعية من أجل الموعظة الأخلاقية.

وقد عرفت البناية المسرحية تطورا ملحوظا عند الرومان؛ فبعد أن كانت عند الإغريق فضاء مفتوحا يتكون من منصة للتمثيل ودائرة للجوقة تحيط بهما مدرجات تسندها تَلَّةٌ أو مرتفعٌ من الأرض، صارت فضاء مغلقا تحيط به من الخارج أسوار عالية، وأصبحت المدرجات موزعة عموديا على طبقات ثلاث ترفعها أعمدة حجرية ضخمة وعالية. وقد تعددت هذه المسارح في المدن الرومانية خلال القرنين الأول والثاني الميلاديين، وشُيِّدت على غرارها مسارح أخرى في سائر البلاد التي استعمرها الرومان في أوربا وحوض البحر الأبيض المتوسط.

ومن جهة أخرى، تم توجيه مضامين العروض المسرحية ورسائلها نحو أهداف سياسية تخدم المنحى العسكري والتوسعي للدولة الرومانية، لذلك حفلت التراجيديات الرومانية بقِيَم الإرادة والقوة، وحفلت الكوميديات باللعب البطولي وأفراح النصر.


    المسرح في العصر الوسيط ا لأستاذ عبد الواحد المرابط   يقع العصر الوسيط بين العصر القديم والعصر الحديث، حيث بدأ مع سقوط الإمبراطورية...