الأستاذ عبد الواحد المرابط
----------------------------
المسرح في العصور الوسطى
إعداد عبد الواحد المرابط
يقع العصر الوسيط بين العصر القديم
والعصر الحديث، حيث بدأ مع سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس وامتد إلى
القرن الخامس عشر. وهو يُقَسَّم عادة إلى ثلاث مراحل: العصر الوسيط الأول (قـ 5-
10)، والعصر الوسيط المركزي (قـ 11- 13)، والعصر الوسيط المتأخر (قـ 14- 15). وقد عرف
هذا العصر سيطرةَ الكنيسة على مختلف مظاهر الحياة في أوروبا، من خلال نظام فيودالي
إقطاعي يقوده النبلاء ورجال الدين.
عملت الكنيسة في القرون الأولى من هذا
العصر على إخماد شعلة المسرح وغيره من الآداب والفنون، حيث أُدين الممثلون والمشتغلون
بالمسرح وحُشِروا في زمرة المارقين والمنبوذين واللصوص والعاهرات، بل حُرموا من
دخول الكنائس ومن مناولة القربان المقدس. فقد حورِبت التقاليد الإغريقية
والرومانية لما فيها من مظاهر وثنية مخالفة للتعاليم النصرانية، فأُغْلِقت المسارح
واعتُبِر التمثيل والتصوير والنحت والغناء والرقص خطايا تستوجب العقاب في الدنيا
وفي الآخرة.
غير أن رجال الدين انتبهوا - في ما بعد
- إلى الدور الذي يمكن أن يلعبه المسرح في تعبئة الناس وترسيخ شعورهم الديني، لذلك
شرعوا - ابتداء من القرنين الثامن والتاسع - يقدمون مسرحيات يُمَرِّرون من خلالها
القصص الدينية الإنجيلية والمواعظ الأخلاقية وطقوس الصلاة والعبادة، فَحَلَّ
الكتابُ المقدس محل المصادر الأسطورية والملحمية التي كان المسرح ينهل منها في
العهدين الإغريقي والروماني، وصار الموضوع المحوري للمسرح الوسيط هو آلام المسيح
وتضحياته من أجل خلاص الإنسان.
وكانت هذه العروض الدينية في البداية
تُقَدَّم داخل الكنائس والكاتدرائيات، خلال أعياد ميلاد المسيح وأعياد الفصح
وأعياد الخميس النصرانية، فأصبح المسرح جزءا مُكَمِّلًا للصلاة والتعبد، يستحضر
قصة الخلق وسِيَرَ الأنبياء والقديسين. وكان هذا المسرح يُقدَّم للمؤمنين من خلال
حوارات وأناشيد يضطلع بها الرهبان والقساوسة.
ولما استقطب هذا المسرح الديني جمهورا
واسعا لم تعد فضاءات العبادة تستوعبه، خرج به الرهبان إلى الساحات العامة، وهناك
عرف - تدريجيا - بعض التحولات التي مست شكله ومضمونه، حيث بدأ يزاوج بين المحتويات
الدينية والدنيوية، ويستقطب مؤلِّفين غير الرهبان، فتسربت إلى حواراته اللغاتُ
العامية وبعضُ الأفكار الإصلاحية، وظهر الممثلون المحترفون، وشُيِّدت السقالات
الخشبية لمنصة التمثيل ومقاعد الجمهور. وقد صب ذلك في صالح الحركات البروتِستانية
المناهضة للتقاليد الكاتوليكية، فبدأت الجماهير تتذوق الجوانب الفنية والجمالية
للمسرح، فضلا عن جوانبه الدينية.
وفي موازاة هذا المسرح الديني، نما نوع
من المسرح الدنيوي، ابتعد - إلى حد ما - عن الدراما الطقسية، واتجه نحو الحكايات
الشعبية والغناء والرقص واللعب البهلواني. ظهر هذا الشكل في بداية الأمر داخل قصور
الأغنياء ورجال الدولة، حيث تنتهي الحفلات بعروض مسرحية تمثل قصصا طريفة وتجسد
شخصيات نمطية مُضحكة وحوارات هزلية، فضلا عن النكت الساخرة والحركات البهلوانية.
وفي هذا السياق تطورت فنون العرض، من تعبير جسدي صامت (الميم (Mine) وبانتوميم (Pantomime)) وبهلوان (acrobate) وتلاعب جسدي (Jongleurs) وسيرك (Cirque) وغير ذلك... وقد
تعامل رجال الدين مع هذا المسرح بنوع من التحفظ دون أن يستطيعوا مصادرته، احتراما
لحلف السياسة والدين؛ فكانوا يحضرون الولائم التي يُدْعَون إليها، ثم ينسحبون قبل
بداية العروض. وخارج قصور الأغنياء، بدأت تظهر مسارح شعبية متنقلة تجوب القرى
والمدن، وتقدم عروضَها الهزلية فوق العربات التي تتحول إلى منصات للتمثيل.
خلاصة الأمر أن العصر الوسيط عرف نوعين
من المسرح: مسرح ديني طقسي (liturgique) نشأ في الكنائس والكاتدرائيات وامتد إلى الساحات العمومية، يشرف
عليه الرهبان والقساوسة؛ ومسرح دنيوي (profane) نشأ في قصور الأثرياء ورجال السلطة، وعند الفرق المتجولة في بين
المدن والقرى. وقد خضع كل نوع منهما لمسار من التطور التدريجي، فتغيرت محتوياته
وأشكاله على مدى القرون، تمهيدا لمسرح عصر النهضة.
فقد تطور المسرح الطقسي، داخل الكنائس
وخارجها، ليفرز ثلاثة أنواع من المسرحيات الدينية: مسرحيات الأسرار، ومسرحيات
المعجزات والخوارق، ومسرحيات الأخلاق: الأولى كانت تعرض حياة المسيح وعذاباته انطلاقا
من الكتاب المقدس (العهد القديم والعهد الجديد)؛ والثانية كانت تعرض حياة القديسين
وكراماتهم، بدءا بقصة مريم العذراء؛ والثالثة كانت تُشَخِّص حكايات تعليمية
أخلاقية للوعظ والإرشاد الديني.
من المسرحيات الدينية التي وصلتنا، "زيارة
المقبرة" (Visitatio
Sepulchr) للراهب الإنجليزي "سانت
إيتلوود" (Saint Ethelwold) من القرن العاشر، وهي تشخص قصة قِدِّيسات ذهبن لزيارة قبر
المسيح، فظهرت الملائكة وأوحت إليهن بأسرار إلهية؛ ومسرحية "القديس
نيكولا" (li Jus de saint
Nicholai) للشاعر جون بوديل (Jean Bodel) من
القرن الثاني عشر، وهي تعرض كرامات هذا القديس وقدرته على التبشير؛ و"تمثيلية
آدم" (Le Jeu d'Adam) لمؤلف مجهول من القرن الثاني عشر، وهي تجمع بين الأناشيد الدينية
اللاتينية والحوارات الفرنسية، وتشخص خطيئة آدم وحواء وخروجهما من الجنة، وقصة قتل
قابيل لأخيه هابيل، ثم تَعاقب الأنبياء المُخَلِّصين وصولا إلى السيد المسيح؛
ومسرحية "معجزات تْيوفيل" (Miracles
de Théophile) للكاتب الفرنسي روتْبوف (Rutebeuf) من القرن
الثالث عشر، وهي مستوحاة من سيرة قديس باع نفسه للشيطان ليسترد أمواله التي سلبه
إياها أحد الأساقفة، لكنه لم يفلح في ذلك فندم وطلب المغفرة من السيدة العذراء؛
ومسرحية "كل إنسان" لمؤلِّف مجهول من أواخر القرن الخامس عشر، وهي تعرض
شخصيات ترمز بكل منها لصفة من الصفات المجردة: فشخصية "كل إنسان" رجل
ثري يستدعيه الموت فجأة للمثول أمام الله من أجل محاسبته، فطلب من أهله وأصحابه أن
يرافقوه في رحلته لكنهم رفضوا وتخلوا عنه، وطلب من "المعرفة" أن تصاحبه
لكنها رفضت واكتفت بأن تنصحه بالاعتراف أمام الله. وفي الأخير تبرع بثروته في سبيل
الخير، ودخل الإيمان قلبه، وحين دخل إلى قبره وجد "العمل الصالح" يرافقه
ويدخل معه. فالعمل الصالح في نهاية المطاف هو المخلص. وتشكل هذه المسرحية نموذجا
للتوجيه الديني والأخلاقي من منظور الكنيسة الكاتوليكية في العصور الوسطى.
أما المسرح الدنيوي، فقد وصلتنا منه
مسرحيات عديدة، منها مسرحية "السيد بّاثْلان" (la Farce de Maître Pathelin)
لكاتب فرنسي مجهول من القرن الخامس عشر. وهي تحكي عن محام ذكي محتال وَكَّلَه راعٍ
اتهمه سيدُه بسرقة خرفان، فاشترط المحامي على المتهم أن يصمت في المحكمة وألا يجيب
عن أسئلة القاضي والمُدَّعي إلا بالثُّغاء (أي بصوت الخرفان). ولما نجحت هذه
الحيلة وبُرِّئَ المتهمُ، طلب منه المحامي أداء الأتعاب، فلم يسمع منه إلا
الثُّغاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق