الأستاذ عبد
الواحد المرابط
------------------------------------------
● المسرح
الباروكي
بدأ عصر النهضة بنوع من المسرح يسمى "مسرح
الباروك" أو "المسرح الباروكي" (Baroque)، وهي تسمية قدحية
استعملها مؤرِّخو الفن - فيما بعد - للدلالة على الغرابة والإفراط اللذين طبعا
الفنون والآداب خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر والنصف الأول من القرن
السادس عشر؛ فهي مأخوذة من الكلمة البرتغالية (Barroco)
التي تعني "اللؤلؤة غير المنتظمة"، أو "اللؤلؤة ذات الشكل
المعقد"، غير أن دلالتها توسعت لتعني كل شيء معقد في جملته وفي تفاصيله.
انتشر هذا الأسلوب الفني
في مختلف مجالات الإبداع، في الرسم والنحت والعمارة والموسيقى والأدب، بدءا من
المدن الإيطالية إلى مختلف المدن الأوربية، في ألمانيا وهولاندا وإنكلترا وفرنسا
وإسبانيا وغيرها... وكان يقوم على رؤية فلسفية ترى أن العالم قائم على التناقضات
والمفارقات التي يمكن أن نجمعها في عمل فني يبدو منسجما.
وقد وجد فن الباروك في المسرح وسيلةً فنية هائلة
للتعبير عن هذه الرؤية المركبة: فالعالم مسرحية كبيرة، وعلى المسرح أن يعبر
عن الفوضى الثاوية خلف نظامه الظاهر، فيجمع بين الفوضى والنظام، وبين الواقع
والخيال، وبين الحقيقة بالوهم، وبين المألوف والعجيب؛ ومن ثمة يُمَثِّل العالَم،
ويُحَوِّل الحياة إلى فن.
وقد تجلت هذه المبادئ الفنية من خلال موضوعات
المسرح الباروكي وتقنياته: فعلى مستوى الموضوعات نجد الأوهام والمفارقات والتناقض
والإفراط والمبالغة والجنون والموت والشك والتردد والتحول والتغير والغموض
والغرابة والإفراط واللّاعقلانية والعجائب، فضلا عن العواطف غير المستقرة والأطوار
الغريبة. أما على مستوى التقنيات، فنجد التمثيل داخل التمثيل والمبالغة في الحركة
وكثافة الديكور وكثرة الألوان وغرابة الأمكنة وتقلب الشخصيات والأحداث وجرأة
الأسلوب واستعارية اللغة، فضلا عن خرق وَحْدَتَي المكان والزمن، ومزج الجد بالهزل،
وخلط التراجيديا بالكوميديا، وتعقد الحبكة، ووفرة العناصر السينوكرافية...
ظهر المسرح الباروكي
(وفن الباروك عموما) في المدن الإيطالية أولا، لذلك سُمِّي في بداية أمره
"المسرحَ الإيطالي"، أو"الفنَّ الإيطالي". وقد اتخذ هناك
أشكالا متنوعة، منها الأوبِّرا (Opera) والأوبّيريت (Opérette) والكوميديا المُرتجَلة (commedia dell’arte).
وبعد ذلك امتد إلى سائر المدن الأوربية، في إنكلترا مع وِليام شِكْسْبّير (William Shakespeare) (تـ 1616)، وفي فرنسا مع بّْيير كورناي[1] (Pierre Corneille) (تـ 1684 )، وفي ألمانيا مع أندرياس كريفيوس (Andreas Gryphius)
(تـ 1664)، وفي
هولاندا مع يوست فونديل (Joost
Vondel) (تـ 1679)، وفي إسبانيا مع لوبِّي دي فيكا (Lope de Vega)
(تـ 1562 )
وتيرْسو دي مولينا (Tirso de Molina) (تـ 1648) وكالْديرون دي لاباركا (Calderón de
la Barca) (تـ 1681 ) وخوان ريز دي ألارْكون (Juan Ruiz de Alarcón ) (تـ 1639)...
من النماذج التي مثلت المسرح الباروكي في أوربا،
نشير باختصار إلى مسرحيتَي "الوهم الهزلي" (L'Illusion comique) (1636)
و"السيد" (Le Cid) (1637) للكاتب الفرنسي بّْيير
كورناي، وإلى مسرحيتَي "حلم ليلة صيف" (A Midsummer Night's Dream) (1600) و"دون
جوان" (Dom juan) (1665) للكاتب الإنكليزي ويليام شِكْسْبّير:
1- تعرض مسرحية "الوهم الهزلي" أحداثا وقعت
بين الأب بّريدَمان (Pridamant) وابنه كْلينْدور (Clindor). فقد كان هذا الأب يقسو على ابنه، مما جعل
هذا الأخير يفر ويختفي عن الأنظار، فبدأ الأب يبحث عن ابنه واستعان بالساحر (Alcandre)، الذي ذهب به
إلى مغارة وبدأ يصور له رحلةَ ابنه عبر الأمكنة، إلى أن شاهده يموت. تبين في ما
بعد أن الأمر يتعلق بلعبة مسرحية، مَثَّل فيها الابن دورَ الساحر ليجعل أباه يندم
على قسوته. وفي الأخير يتم الثناء على المسرح لأنه يوصِلنا إلى الواقع عن طريق
الخيال. وقد جمعت هذه المسرحية بين المأساة والملهاة، ومزجت الواقعي بالعجائبي،
وحطمت وحدة الزمن والمكان والحدث، واعتمدت الوهم الذي يوصل إلى الحقيقة، فضلا عن
توظيفها المسرحَ داخل المسرح.
2- عرضت مسرحية "السيد" حكايةَ الشاب
رودْريك (Rodrigue) والشابة
شيمين (Chimène)، اللذين
جمعتهما علاقة حب وتعاهدا على الزواج. غير أن هذا العاشق وجد نفسه ممزقة بين عاطفة
الحب وبين الرغبة في الثأر من أبِ حبيبته الذي صفع أباه وأهانه، فانتهى إلى قتله
دون أن يتخلى عن حبه. أما شيمين، ورغم حبها له، فقد سعت إلى الانتقام منه، فسلطت
عليه مُحِبَّها سانْش (Sanche) على أنها
ستتزوج المنتصِر، فانتصر رودريك وطلب يدها... جمعت هذه المسرحية بين الكوميديا
والتراجيديا، ولم تحترم قواعد الوحدات الثلاث، ولا مبدأ المشابهة (Vraisemblance) ولا مبدأ التأدب (bienséance).
3- عرضت مسرحية ويليام شكسبير، "حلم ليلة
صيف"، قصةَ حب معقدة ومشابكة بين أربعة عشاق، تدور أحداثها في مدينة أثينا
اليونانية وفي غابة مجاورة لها؛ فمن جهة أولى هناك حب متبادل بين ليساندر (Lysander) وهيرميا (Hermia)، اللذين يرغبان في
الزواج؛ ومن جهة ثانية هناك ديميتريوس (Demetrius) الذي يحب هيرميا من طرف واحد؛ ومن جهة ثالثة هناك هيلينا (Helena) التي تحب
ديميتريوس من طرف واحد.
فقد رغب إيكوس (Egeus) أبُ هيرمينيا
في أن يزوجها لديميتريوس، وهدَّدها بأن يلجأ إلى قانون البلاد ويطلب إعدامها إن
رفضت ذلك. وعلى إثر ذلك قرر العاشقان (ليساندر وهيرميا) مغادرة البلاد نحو بلاد
أخرى لا تخضع لذلك القانون، فعلمت هيلين بذلك وأخبرت ديميتريوس لكي يبادلها الحب
ويتخلى عن هيرميا، لكن هذا الأخير لاحق العاشقَين، فتبعته لكي تثنيه عن ذلك. وهكذا
خرج العشاق الأربعة من أثينا وتاهوا ليلا في ضباب الغابة المجاورة. وهناك تَدَخَّل
في قصتهم ملكُ الجن أوبيرون (Oberon)، الذي أشفق على هيلينا، فطلب من خادمه بّوك
(Puck) أن يضع رحيق زهرة الحب في عيني ديميتريوس لكي يراها عندما يستيقظ
ويحبها، غير أن هذا الخادم أخطأ فوضع الرحيق في عيني أليساندر، ثم حاول إصلاح ذلك
الخطأ فوضع الرحيق في عيني ديميتريوس، فكانت النتيجة أن صار الشابان معا يحبان
هيلينا ويتصارعان من أجلها. وبعد هذا الالتباس زال مفعول الرحيق السحري، فعاد
ليساندر إلى حبيبته هيرميا، واقتنع ديميتريوس بحب هيلينا، فقرروا جميعا العودة إلى
أثينا لإقامة حفلات الزواج.
4- عرضت مسرحية
"دون جوان" حكاية نبيل إسباني كان يتقرب إلى النساء ويتلاعب بمشاعرهن. فبعد
أن تخلى عن إلْفير (Elvire)، بدأ يتقرب
من شارْلوت (Charlotte) ويتودد
لماتورين (Mathurine) في نفس
الوقت، فقتله إخوة شارلوت. جمعت هذه المسرحية بين الكوميديا والتراجيديا، ولم
تحترم وحدتي الزمن والمكان، وعرضت شخصيات غير مستقرة، فضلا عن إدراجها لمشاهد
وأحداث عجيبة غير واقعية.
[1]- عُرف كورناي بمسرحياته
التراجيدية الكبرى، التي تجعله ممثلا بارزا للاتجاه الكلاسيكي، لكنه كتب أيضا
مسرحيات باروكية تجمع بين التراجيديا والكوميديا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق