الجمعة، 1 مايو 2020

المسرح الإغريقي القديم


الأستاذ عبد الواحد المرابط

----------------------------------------------

 

المسرح الإغريقي القديم

يعود أصل المسرح الإغريقي إلى "الديثرامبوس" (Dithyrambe)، وهو عبارة عن أناشيد دينية مصحوبة بالعزف على الناي وبرقصات جسدية، كانت تقام تمجيدا للإله ديونيزوس (Dionysos) مرتين في السنة، مرة في الشتاء (يناير وفبراير) ومرة في الربيع (مارس وأبريل). ففي الموسم الأول كان الناس يجتمعون في طقس رهيب، يستمعون لجوقة من الرجال تؤدي الأناشيد والابتهالات والأدعية، ويشاهدون مناسك تقديم القرابين، التي هي عبارة عن ماعِز (trágos). ومن هنا اشتُقَّ مصطلح "تراجيديا" (tragôidía) الإغريقي الذي يعني "صوت الماعز"، والذي صار في ما بعد يدل على مسرحيات مأساوية تجسد صراع الأبطال من الآهة وأنصاف الآلهة والبشر الخارقين. وفي الموسم الثاني، الذي هو موسم الحصاد وجني محاصيل العنب والغلال الفلاحية، يُقام موسم لشكر الإله ديونيزوس، وتُسَيَّرُ نحو معبدِه مواكبُ من الناس الثَّمِلين تسمى "الكوموس" (komos) في جو من الفرح والانشراح والموسيقى والرقص. ومن هنا اشْتُقَّ مصطلح "كوميديا" (kômôidía) الذي يعني "صوت الموكب"، والذي صار فيما بعد يدل على المسرحيات الهزلية.

وقد تطورت هذه الطقوس الدينية (التراجيدية والكوميدية) تدريجيا إلى أن أصبحت فرجات شعبية وجماهيرية يتم الإعداد لها بعناية، حيت يتكفل الأثرياء بتمويلها، وتسهر عليها الدولة ورجال السياسة. وفي سياق هذا التطور بدت مظاهر الدراما المسرحية لتضفي على تلك الطقوس طابعا فنيا وجماليا، دون أن تُفْقِدَها بُعْدَها الديني. ومن تلك المظاهر تنظيم مباريات لاختيار النصوص الجديرة بأن تُعْتَمد في إنشاد الجوقة (أي الكورس) (Chorus) (Chœur)، وبناء مدرجات خاصة يجلس عليها المتفرجون قُبالة منصةٍ يقف عليها الممثلون. ومن ذلك أيضا اعتماد نصوص اختار مؤلفوها فصل رَجُل (ممثل) عن الجوقة ليضطلع بحوار يوجهه إليها، مما شجع مؤلفين آخرين إلى فصل رجلين آخرين، فانتهى الأمر بثلاثة ممثلين يشخصون الأدوار المختلفة ويتبادلون الحوارات فيما بينهم، بالإضافة إلى الجوقة التي تضطلع بسرد الوقائع وإنشاد الأشعار.

من كُتّاب المسرح الإغريقي البارزين، الذين احتفظ لنا التاريخ ببعض نصوصهم، خمسة عاشوا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد؛ ثلاثة منهم ألَّفوا مسرحيات تراجيدية تستوحي أحداثها وشخصياتها - في الغالب - من الأساطير والملاحم والأحداث التاريخية الكبرى، المذكورة في ملحمتي "الإليادة" (Iliade) و"الأوديسا" (l'Odyssée) اللتين دونهما الشاعر هوميروس (Homère) سابقا، وهم "إسْخِلوس" (Eschyle) (تـ 456-) و"سوفوكْليس" (Sophocle) (تـ 405-) و"يوريبّيديس" (Euripide) (تـ 406-)؛ واثنان ألَّفا مسرحيات كوميدية تستوحي شخوصَها - في الغالب - من الأوضاع السياسية والاجتماعية ومن السلوكات المنحرفة للأفراد، وهما "أرِسْطوفانيس" (Aristophane) (تـ 386-) و"مينانْدْر" (Ménandre) (تـ 293-):

ألَّف إسخلوس أكثر من ثمانين مسرحية، احتفظ التاريخ بأربع منها كاملة، هي مسرحية "الفرس" ومسرحية "أكامَمْنون" ومسرحية "حاملات القرابين" ومسرحية "الضارعات"؛ وألَّف سوفوكليس ثلاثا وعشرين ومئة مسرحية، بقيت منها سبع كاملة، هي "أنتيكونة" و"أجاكس" و"الطراشينيات" و"أوديب ملكا" و"فيلوكْتيت" و"إليكترا" و"أوديب في كولون"؛ وألَّف يوريبّيديس اثنتَي وتسعين مسرحية بقيت منها تسع عشرة كاملة، نذكر منها "ألسيسْت" و"ميدي" و"أوندروماك" و"هِراكليس" و"إيون" و"إليكترا"؛ وألَّف "أرسطوفانيس" أربعا وأربعين مسرحية، بقيت منها إحدى عشرة كاملة، هي "أهل أخارناي" و"الفرسان" و"السُّحُب" و"الزنابير" و"السلام" و"الطيور" و"ليزيستراطا" و"النساء المحتفلات بأعياد التيسموفوريا" و" "الضفاضع" و"برلمان النساء" و"بّْلوتوس"؛ وألَّف مينانْدْر مئة وثماني مسرحيات، لم يبق منها إلا مقاطع دالة.

وانطلاقا من نصوص هؤلاء الكتاب الكبار، ترسخت تقاليد الممارسة المسرحية عند الإغريق، فأصبحت التراجيديا تقوم من الناحية التقنية على الأجزاء التالية: البّْرولوك (Prologue)، وهو المقدمة التي تسرد للجمهور الأحداث السابقة على ما ستقدمه المسرحية؛ والبّارودوس (Parodos) وهو غناء الجوقة عند دخولها؛ والسّْطاسيمون (Stasimon)، وهو الغناء الذي يفصل بين أجزاء الحدث، والمشاهد (أو الحلقات) (Epeisodos) التي تعرض الأحداث من خلال الحوار بين الشخصيات؛ و"الإكْزودوس" (Exodos) الذي هو خروج الجوقة. أما من الناحية الموضوعاتية فتقوم على طيمتَي "القَدَر" و"المَصير"، حيث تُعاقب الآلهةُ البشرَ على أخطائهم، حتى وإن كانت قديمة ارتكبتها الأجيال السابقة، وحتى وإن كانت قد ارتُكِبت بطريقة غير إرادية وغير مقصودة؛ وفي المقابل يحاول الأبطال تغييرَ مصائرهم والوقوفَ في وجه الأقدار، كما فعل لايوس وأوديب في مسرحية سوفوكل، وكما فعل بروميثوس في إحدى مسرحيات إسخِلوس.

 أما الشكل الذي استقرت عليه الكوميديا الإغريقية فهو يقوم على الأجزاء التالية: البّرولوك، والبّارودوس، والصراع (agôn) بين البطل وخصمه أو خصومه، والرسالة (parábasis) الموجَّهة إلى الجمهور من قِبَل الجوقة، ومشاهد انتصار البطل، والخروج. وهي قريبة إلى حد ما من أجزاء التراجيديا، غير أنها تقدم سمات الإنسان العادي وتُشَخِّصُ ضعفَه وتهورَه وحماقاته، في جو من الضحك والسخرية الهادفة إلى الموعظة الأخلاقية.







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

    المسرح في العصر الوسيط ا لأستاذ عبد الواحد المرابط   يقع العصر الوسيط بين العصر القديم والعصر الحديث، حيث بدأ مع سقوط الإمبراطورية...