الخميس، 30 أبريل 2020

مسرح القسوة


الأستاذ عبد الواحد المرابط
------------------------------------------

 

مسرح القسوة

أطلق أُنطونان أرطو (Antonin Artaud) (تـ 1948) على تجاربه المسرحية تسميةَ "مسرح القسوة" (Théâtre de Cruauté)، ويقصد بذلك المسرحَ الذي يُجَسِّد معاناة الإنسان من جَرّاء عُنْفِ العالَم وأَلَمِ الوجود فيه، على الصعيدين الفيزيائي والميتافيزيقي، وفي المستوين الروحي والجسدي. فالقسوة - بالنسبة إليه - ثاوية في عمق الحياة، وما المسرح إلا رحلة جماعية رهيبة نحو هذا العمق، تُعيد للإنسان صرخةَ ولادتِه وتُرجِعُه إلى صدمةِ وجودِه الأولى...

انفتح أرطو على تجارب مسرحية خارج القارة الأوروبية، فضلا عن علاقته الوطيدة بالاتجاهات الفكرية والإبداعية الغربية في القرن العشرين. فعلى الصعيد الأوروبي كان أرطو رائدا من رواد المذهب السُّريالي (Surréalisme)، بيد أنه انتقل فيما بعد من التركيز على اللّاشعور الفردي إلى استلهام اللّاشعور الجماعي، فنقل إبداعَه من دائرة الحلم (الفردي) إلى دائرة الأسطورة (الحلم الجماعي)، وشرع ينهل من الجوانب الأنثربّولوجية الثاوية في العقل الباطن ومن الأبعاد الميتافيزيقية للكائن البشري. وفي هذا الإطار استفاد من نظرية كارل يونك حول اللّاشعور الجمعي، ومن تصورات فريديريك نيتشه حول جذور التراجيديا، ومن مسرحيات ألفريد جاري ذات النزعة الميتافيزيقية؛ فتوجه بذلك كله نحو خلق ممارسة مسرحية تُحَرِّر القِوى الخبيئة في الإنسان وتفجر طاقاته الإبداعية الخلاقة.

أما خارج أوروبا فقد تشبع بالثقافة الشرقية عموما، واستفاد من المسرح الشرقي القائم على الاحتفال الطقسي المفعم بالتعابير الجسدية ذات البعد الروحي، وخصوصا منه الأشكال المسرحية في جزيرة بالي (Bali) بأندونيسيا، التي وجد فيها نزعةً روحية تميل إلى الطقوس السحرية والصوفية والوجدانية، فتربط ما هو حسي بما هو مجرد وما هو إنساني بما هو كوني. وبالإضافة إلى ذلك، تَشَبَّع أرطو بثقافة أمريكا الوسطى، وخصوصا منها ثقافة قبائل "تاراهومارا" (Tarahumara) في المكسيك، التي ظلت تحتفظ برؤية روحانية للإنسان والكون، تلتقي فيها الأسطقسات الأربعة (الماء والهواء والتراب والنار) ضمن منظور كوني واحد، وتتحد فيه الجزئيات بالكليات، بعيدا عن الثنائيات المنطقية والتقسيمات العقلانية التي طبعت الثقافة الغربية.

ومن جهة أخرى، ترك أرطو بصمات واضحة في تجارب المسرح المعاصر، على المستوى العالمي؛ إذ شكل مُنْطَلَقا لأجيال من الكُتّاب والمخرجين، منهم البلجيكي ميشال دو كيلدرود (Michel de Ghelderode) (تُـ 1962)، والبولوني جيرزي كروتوفسكي (Jerzy Grotowski) (تُـ 1999)، والإيطالييْن أوجينيو باربا (Eugenio Barba) (وُ 1936) وروميو كاستيلّوتشي (Roméo Castellucci) (وُ 1960)، والبريطاني بّيتِر بروك (Peter Brook) (تُـ 1936)، والإنجليزية سارا كان (Sarah Kane) (وُ 1971)، بالإضافة إلى تجارب "المسرح الحي" (Living Theater) و"المسرح الاحتفالي" (Cérémonial) و"مسرح الوقائع" (situationnisme) و"المسرح المفتوح" (Open Theater)...

وقد عَبَّر أرطو عن تصوره لمسرح القسوة من خلال إخراجه لمسرحيات عديدة، بالإضافة إلى كتابات نظرية ضَمَّنها مواقفَه وتصوراته وتأملاته؛ فمن مؤلفاته كتاب "مسرح القسوة" الصادر سنة 1933، وكتاب "المسرح وقرينه" الصادر سنة 1938؛ ومن أعماله الإبداعية مسرحية "آل سِنْسي" (Les Cenci) (1935) التي اقتبسها وأخرجها وشَخَّص فيها دورا رئيسيا. غير أن كتاباته النظرية لا تتجه نحو بناء نسقي للتصورات والمفاهيم، بقدر ما ترمي إلى خلق حالة من الإحساس بعمق التفكير الناتج عن عمق المعاناة؛ لذلك امتلأت تلك الكتابات بالشذرات المتفرقة والعبارات المنفصلة والصور الشعرية الغامضة. لكن هذا لا يمنع من استخلاص أبرز الأفكار والمواقف والتصورات التي ترسم المعالم الأساسية لمسرح القسوة:

رفض أرطو جميع التقاليد التي كَرَّسَتها الممارسات المسرحية قديما وحديثا، والتي جعلت العرض مجرد أشكال خاضعة للقواعد والأعراف... وفي سياق ذلك سخر من النزعات التعبيرية والتصويرية التي تقدم صورة ضيقة للإنسان، دون أن تغوص في أعماقه الغائرة، ودون أن تستجلي مكوناته اللاشعورية الفردية والجماعية؛ فهي - بالنسبة إليه - تفصل الجسد عن الفكر والمحسوس عن المجرد والإنسان عن العالم. واستخف - من جهة أخرى - بالنص الدرامي لأنه لا يقدم للمسرح إلا لغة واحدة هي لغة الكلام، بينما يحتاج العرض إلى لغات الجسد المنطوقة والمرئية والممتدة في الفضاء السينوكرافي؛ فالمسرح عرض شامل يضطلع به المخرج لا المؤلف.

بناء على هذه المواقف، أعاد مسرح القسوة الاعتبارَ إلى اللّاشعور الفردي في ارتباطه باللّاشعور الجمعي، من خلال جعل العرض المسرحي احتفالا طقسيا تتحرر فيه غرائز الفرد من جهة، وتنطلق فيه الانفعالات الجماعية من جهة أخرى؛ ومن ثمة يعثر الإنسان على ذاته، ويعود إلى آدميته، فترتفع الحياة إلى ذروتها. إن المسرح - حسب أرطو - عالَمٌ سحري تلتقي فيه الأرواح بالأجساد، فيشعر الإنسان بالقسوة التي تمارسها عليه الأشياءُ، وتستيقظ حواسُّه الأصلية وغرائزُه الدفينة وأحاسيسُه العميقة، ويصل بالتالي إلى حالة من "التطهير" الروحي والجسدي. لا يتعلق الأمر بالتطهير النفسي (Catharsis) الذي شكل غايةَ التراجيديات القديمة حسب أرسطو، ولا بمشاعر التَّعَطُّف والشفقة (Pathétique) التي سعت إليها الدراما الحديثة؛ لأن مسرح القسوة لا يعتمد آلية "المحاكاة" (Mimêsis) ولا آلية "الانعكاس" (Reflet) ولا آلية "التعبير" (Expression)، بل يرمي إلى خلق عالَم سحري قرين أو مُكَرَّر (Double) تنكشف فيه مأساوية الإنسان وقسوة الوجود.

هكذا، عاد أرطو بالمسرح إلى أصوله الطقسية البدائية، لا من حيث الأساطير والمعتقدات الدينية، وإنما من حيث مواجهة الإنسان للقوى الخارجية والداخلية اعتمادا على كيانه الروحي والجسدي، وهي المواجهة التي تُجسد قسوةَ وجودِه في هذا العالَم، فتجعله يطلق العنان لنزعاته وأحلامه وهواجسه وقِواه النائمة. وبذلك فمسرح القسوة لا يحاكي الحياة بقدر ما يعيشها من داخلها وفي عمقها، ليتبين أنها أكثر خطورة ورعبا مما تبدو عليه ظاهريا، وأنها عبارة عن حلم جماعي رهيب وقاس.

لقد سعى أرطو إلى أن يكون مسرح القسوة عرضا احتفاليا، يقوم على لغة الجسد وامتداداته الصوتية والحركية، التي تحيط بالمتفرجين وتستدرجهم إلى نشوة (Transe) صوفية تُخْرِج أرواحَهم من معاقلها وتُحَرِّر أجسادَهم من قيودها، لتزج بهم في طقس جماعي واحد يُغَيِّر أشياء كثيرة في أعماقهم، فيكون خروجهم من المسرح ليس كدخولهم إليه...

انطلاقا من هذه التصورات، سعى أرطو إلى إيجاد مسرح خالص (pur) وشامل (Total )؛ خالص لأنه يستبعد العناصر التي لا تنتمي إلى فضاء العرض المسرحي، والتي طالما ألصقتها به الممارساتُ السابقة في سعيها إلى اصطناع فرجات زائفة؛ وشامل لأنه يستثمر جميع الوسائل السينوكرافية، من تمثيل وحركة وغناء وأضواء وديكورات وأزياء ودمى وسيرك وسينما ورقص، ليجعل الجمهور في قلب العرض المسرحي لا خارجه.

وعليه، فقد أعطى أرطو الأولوية للإخراج على حساب النص المكتوب الذي كان يتلافاه في تركيب العرض، فإذا اضطر للتعامل معه أعاد توجيهَه نحو معان جديدة ومختلفة. إن لغة النص هي لغة الكلام، أي لغة الأفكار الذي نعبر بها عن أشياء نعرفها، أما لغة العرض فهي لغة العلامات الميتافيزيقية التي تُعَبِّر عَمّا لم نَعَتَدِ التعبيرَ عنه، وهي بذلك مستقلة عن الكلام. فـ"الأفكار الواضحة، في المسرح كما في غيره، أفكار ميتة ومُنتهية". إذن، فالإخراج هو نقطة انطلاق الإبداع المسرحي، والمخرج هو ذلك الساحر المسؤول عن إقامة الطقس المسرحي بكل مكوناته، وجَعْلِ العرض حلما جماعيا شاملا يغوص في أعماق الإنسان.

ثم بعد ذلك يأتي دور الممثل الذي يزرع الحياة في ذلك الطقس بما لديه من قدرات صوتية وأدائية عالية. فقد أعاد أرطو للممثل هويتَه الجسدية والروحية ليغدو كائنا احتفاليا مشاركا في طقس جماعي، وليس مجرد دمية تستظهر حوارات النص وترددها أمام الجمهور. فالممثل محور مسرح القسوة، لأنه يزرع الحياة في العرض المسرحي ويعطيه امتدادا ماديا تجسده الحركة والصوت والرقص والصراخ...

وتأتي العناصر السينوكرافية الأخرى لتساهم بقوة في هذا الطقس المسرحي؛ فالإنارة متقلبة تُحدِث الدهشة وتخلق أجواء المفاجأة والخوف والحزن والفرح والغضب والرعب؛ والموسيقى تُساير العوالم السحرية للأحداث بنوطات فجائية تحرك أحاسيس الجمهور العميقة؛ والأزياء تضفي على العرض طابع الغرابة والعَجَب؛ والأكسسوارات تقوم مقام الديكور، فضلا عن وظائفها الأداتية والسحرية....

أما موضوعات مسرح القسوة فقد كانت صادمة وحادة، تخرق العادة الاجتماعية المألوفة لِتَكْتَنِه الأعماق الخفية وتُجَسِّد الصراعات الميتافيزيقية الحتمية التي تعصف بالإنسان. منها طيمات الجريمة والتمرد والغرائز والاعتداء وارتكاب المحارم وقتل الأب، وغير ذلك مما يقبع في اللّاوعي من قلق وحيرة... ويمكن أن نقترب من هذه المواضيع بإشارات مختصرة لمسرحية "عائلة سينْسي" (Les Cenci)، التي قدمها أرطو في باريس سنة 1935، والتي تُعتبر من أعماله النموذجية.

تعتمد مسرحية "عائلة سينْسي"، من حيث مادتها الحكائية، أحداثا واقعية مؤلمة عاشتها عائلة إيطالية في روما سنة 1599. يتعلق الأمر بعائلة سينتْشي (Les Cinci) المكونة من الأب فرانشيسكو (Francesco) وزوجته الثانية لوكريسيا (Lucrezia) وابنه منها بيرناردو (Bernardo)، بالإضافة إلى ابنيه من زوجة سابقة هما الشابة الجميلة بْياتريشيا (Beatrice) وأخوها الأكبر جياكومو (Giacomo). فقد كان هذا الأب أرستقراطيا يحمل لقب النَّبالة، لكنه كان منحرفا ومارقا وعدوانيا متسلطا، يحتمي بِلَقَبه الاجتماعي وبسكوت الكنيسة عن جرائمه. كان يمعن في تعذيب زوجته وأبنائه ويتحكم في حياتهم؛ من ذلك أنه تسبب في مقتل ابنيه الأكبرين (شقيقَي بْياتريشيا وجياكومو) بإرسالهما إلى إسبانيا في رحلة يعلم خطورتها... وقد دفعته غرائزه المريضة إلى اغتصاب ابنته الجميلة بْياتريشيا، ذات السبعة عشر ربيعا، فصار يضاجعها كل ليلة؛ ولما حاولت فضحه قرر إرسال العائلة كلها لتعيش في قصر آخر يمتلكه بعيدا عن روما... وقد انتهى الأمر بأن اكتشف أفرادُ العائلة جريمته المخزية، فاتفقوا على قتله، واستعانوا في ذلك بخادمين من خدام القصر دَقّا مسمارا في رأسه... وحين لوحظ غياب السيد سينسي بدأ التحقيق وتدخلت الكنيسة في الاستنطاقات، فاقتيد أفرادُ العائلة إلى المحكمة الباباوية، واستولى الأب كليمونت الثامن (Clément VIII) على أملاكهم وحكم بإعدامهم في المقصلة، باستثناء الأخ الأصغر بيرناردو الذي ظل في السجن إلى أن مات كمدا...

انتشرت أخبار هذه العائلة في إيطاليا وفي بلدان أورُبا، فصارت الشابة بْياتريشيا رمزا للحرية والتمرد على السلطة العائلية والاجتماعية والدينية، ومرجعا حكائيا لكل أشكال القهر والاستغلال والظلم؛ فشكلت قصتُها - منذ ذلك الحين - مصدرَ إلهام لأعمال فنية كثيرة، في الأوبرا والقصة والرواية والمسرح ثم السينما حديثا، فضلا عن فنون النحت والتشكيل. من ذلك لوحة "بياتريشيا سينتْشي" (1599) للرسام الإيطالي جوديو ريني، وقصة "عائلة سينتْشي" (1817) للكاتب الفرنسي ستاندال، ومسرحية "عائلة سينتْشي" (1819) للشاعر البريطاني بّيرْسي شيلّي، وقصة "عائلة سينتْشي" (1839) للكاتب الفرنسي ألِكساندر دوما الأب، ورواية " بياتريشيا سينتْشي" (1854) للكاتب الإيطالي فرانسيسكو كيرازي، ورواية "بياتريشيا سينتْشي" (1957) للكاتب الأمريكي فريديريك بروكوتش، والمسرحية الشعرية "11 شتنبر 1599؛ إلى بياترشيا سينتشي" (2020) للكاتبة الإيطالية سابرينا كاتي...

وقد اعتمد أرطو على مسرحية شيلّي في اقتباس الحكاية، لكنه وَجَّهَها وجهة عنيفة تستخرج قيح الوجود، لتُبرز ما فيه من رعب ووحشية: فالموضوعات تتصل بمآسي الإنسان وأعماقه الغائرة، إذ تجسد "الجريمة" و"ارتكاب المحرم" (inceste) و"قتل الأب" (parricide)، فتبلورها داخل فضاء دلالي مليء بالقسوة والعنف والألم والشر. أما الشخصيات فهي تتجرع قساوة الحياة ومرارة الوجود، ضمن رؤية مأساوية قاسية؛ فشخصية بياتريشيا بطلة تراجيدية بالمعنى العميق للكلمة، جعلها شرطُها الوجودي ضحية ومجرمة في نفس الوقت؛ والأب سينتشي يجسد صورة الإله الظالم الذي يتحكم في البشر، فيدفعهم حتميا ولاشعوريا إلى التمرد والقتل؛ والبابا يجسد سلطة الأعراف والقوانين الدينية الجائرة التي تكبل ضحاياها وتسلبهم أرواحهم وأجسادهم وممتلكاتهم؛ والشخصيات الأخرى ضائعة وضعيفة تخضع لقوى قدرية وحتمية...

ولكي يتحول كل هذا إلى طقس رهيب، حَرَّك أرطو تقنيات العرض المسرحي؛ حيث جعل الموسيقى جنائزية مصحوبة بأصوات الرعد والعواصف، تتخللها موجات صوتية عنيفة تحمل أنفاسا لاهثة أو صراخا متقطعا أو عويلا أو ألما؛ وحَوَّلَ الإنارة إلى إشارات ضوئية خاطفة ومتقلبة تثير الخوف وتحرك الهواجس؛ وجعل الممثلين أجسادا طوطمية تزرع الروح في عالم غرائبي يتدفق على وجدان المتفرجين...

ورغم ذلك كله، لم يلق العرض المسرحي ذلك النجاح الباهر الذي كان أرطو يتوقعه، فلم يُقَدَّم إلى الجمهور إلا سبع عشرة مرة؛ ربما لأن الوسائل التقنية في ذلك الزمن لم تكن كافية لتجسيد التصورات الجمالية لمسرح القسوة؛ وربما لأن الجمهور، الخاضع للتقاليد المسرحية الشائعة، لم يكن يمتلك شجاعة التفاعل مع ما يُقَدَم له من رعب وقسوة؛ وربما لأن أرطو كان يعيش في عصر غير عصره ويُبْدِع في زمن غير زمنه... وعلى كل حال، فقد انتهى به المطاف في مصحات الأمراض النفسية إلى أن مات سنة 1948. أما تجربته المسرحية الفريدة فستصبح مرجعية جمالية أساسية على المستوى العالمي، وستساهم في رسم الطريق للمسارح التجريبية خلال النصف الثاني من القرن العشرين وما بعده...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

    المسرح في العصر الوسيط ا لأستاذ عبد الواحد المرابط   يقع العصر الوسيط بين العصر القديم والعصر الحديث، حيث بدأ مع سقوط الإمبراطورية...