الخميس، 30 أبريل 2020

المسرح التقليدي (الكلاسي)


الأستاذ عبد الواحد المرابط

------------------------------------------

المسرح التقليدي

ظهر المسرح التقليدي (الكلاسي)[1] (Théâtre Classique) - بالإضافة إلى مسرح الباروك - في سياق النهضة الأوربية (Renaissance) وشيوع النزعة الإنسانية (Humanisme)، الرامية إلى تخطي وصاية الكنيسة، وإعادة اكتشاف الآداب والعلوم والفلسفات القديمة التي حجبتها العصور الوسطى. انطلق هذا المسرح من إيطاليا أواخر القرن الخامس عشر، ثم شاع في مختلف البلاد الأوربية واتخذ في كل منها مسارات وأشكالا خاصة.

وقد تجسد هذا الاتجاه في أعمال تراجيدية وكوميدية كثيرة، تمتد زمنيا من بداية القرن الخامس عشر إلى نهاية القرن السابع عشر؛ منها مسرحيات الإيطالي نيكولاس ميكيافيلّي (Nicolas Machiavel)، ومسرحيات الإنكليز طوماس كايْد (Tomas Kyd) وكريستوفر مارلو (Christopher Marlowe) ووليام شكسبير (William Shakespeare) وبين جونسون (Ben Jonson) وجون ويبْسْتير (John Webster) وويليان كوننكريف (William Congreve)، ومسرحيات الفرنسيين روبير كارنيي (Robert Garnier) وجان راسين (Jean Racine) وبيير كورناي (Pierre Corneille) وموليير (Molière)، ومسرحيات الإسبانيين لوبي دي فيكا (Lope de Vega) وبيدرو كالديرون (Pedro Caldiron)...

قام المسرح التقليدي على مبادئ رئيسة كبرى موروثة عن المسرح القديم (الإغريقي والروماني)؛ منها مبدأ "المحاكاة" (Mimésis)، ومبدأ "الاحتمال" (Vraisemblance)، ومبدأ "اللياقة" (Bienséance ): فالمحاكاة تقتضي تصوير الواقع كما هو أو كما يمكن أن يكون، بالتركيز على الخصائص الجوهرية للطبيعة وعلى المُثُل الأخلاقية للحياة الإنسانية، حيث يشاهد المتفرج المسرحية كما لو أنها قطعة من الحياة؛ والاحتمال يقتضي أن تكون تلك الأحداث قابلة الوقوع وغير متنافية مع المنطق السببي أو الزمني؛ وأما اللياقة فتقتضي مراعاة شعور الجمهور والابتعاد عن المشاهد الصادمة التي تُرعِبه أو تخدش حياءه، وإذا كان هناك من أحداث عنيفة أو مشاهد فاحشة فيتم تمريرها سَرْدًا ضمن حوارات الشخصيات.

ويتفرع عن هذه المبادئ مجموعة من المقتضيات والقواعد، منها قاعدة "الوحدات الثلاث" (وحدة الحدث ووحدة الزمن ووحدة المكان)، التي لَخَّصَها بوالو (Boileau) بقوله: "في يوم واحد ومكان واحد يقع حدث واحد"؛ فالحدث (Action) الذي تعرضه المسرحية يكون واحدا تُبْنى عليه عقدة المسرحية (Intrigue)، وإن كانت توازيه أحداثٌ فرعية أو جانبية أو ثانوية فينبغي أن تصب فيه لحظة حَلِّ تلك العقدة، ويقع في حدود يوم واحد ومكان واحد. إن احترام هذه الوحدات يؤدي إلى تحقيق مبدأ المحاكاة ومبدأ الاحتمالية، من حيث إن الجمهور يمكنه أن يتابع حدثا متناميا شبيها بما يحدث في الواقع، دون أن يربكه تغييرُ الديكور أو تناقض الأزمنة.

وبالإضافة إلى ذلك، كان هذا المسرح يفصل بشكل دقيق بين التراجيديا والكوميديا، ويجعل كلا منهما تتناول ما يناسبها من مواضيع وأحداث وحبكات: فقد كانت التراجيديات تقلد المآسي الإغريقية، فتحتفي بالأفكار المثالية والقيم العليا للمجتمع (الشرف والبطولة والحق المقدس...)، وتقدم صورة منظمة عن الطبيعة، وتبتعد قدر الإمكان عن الوهم والخيال المفرط، وإن كانت تستوحي أحداثَها من التاريخ أكثر مما تستقيها من الملاحم والأساطير. أما شخصياتها فكانت تمثل نماذج إنسانية (ملوك وأمراء ونبلاء) تواجه مصائرها ببطولة مثالية، فتنتهي إلى نهايات مأساوية تثير في الجمهور مشاعر الخوف والشفقة، وتدفعه إلى أن يتطهر ويتشبع بالقيم الأخلاقية العليا. وأما لغتها فكانت تعتمد الأسلوب الشعري الرفيع. وأما بنيتها فكانت تقوم على ثلاثة أجزاء: "العرض الأولي" (exposition) الذي يبسط أمام الجمهور ظروفَ الحدث القادم وشخصياته الرئيسة، من خلال حوار (Dialogue) بين شخصيتين أو من خلال حوار داخلي (Monologue)؛ ثم العقدة (Nœud) التي تتكون من أحداث متطورة ومتلاحقة تجعل البطل يواجه صعوبات وتحديات؛ ثم "الحل" (Dénouement) الذي يتمثل في حدث مفاجئ يقود الشخصيات إلى مصائرها المحتومة.

أما الكوميديات التقليدية فقد كانت بدورها تستوحي الملهاة القديمة (الرومانية خصوصا)، غير أنها كانت أقل التزاما بالقواعد (خصوصا منها وحدة الحدث) وباللغة الشعرية. كما أنها اتخذت أساليب وأشكالا مختلفة في البلدان الأوروبية، حيث تداخلت مع الكوميديا المرتجلة في إيطاليا[2]، ومع مسرح الباروكي في إنكلترا وفرنسا، فضلا عن استفادتها من الفرجات الهزلية حسب المناطق.
وعموما فقد اعتمدت الكوميديا التقليدية تقنيات مختلفة لتحقيق أثرها الفرجوي، حيث تميز كل كاتب بطغيان أسلوب معين؛ من ذلك اعتماد اللغة الهزلية، حيث يتضمن الحوار لَعِبًا بالكلمات أو تكرارا مضحكا للعبارات أو سوءَ فهم بين المتحاورين أو استعمالَ لَكْنَة أو لهجة خاصة؛ ومن ذلك اعتماد الحركات الهزلية، حيث يثار الضحك بفعل مشية الشخصيات وتعبيراتها الجسدية وإيماءاتها؛ ومن ذلك اعتماد طبائع الشخصيات، حيث يتم التركيز على مزاجها الخاص أو عيوبها أو عاداتها؛ ومن ذلك اعتماد مواقف سوء التفاهم بين الشخصيات حول موضوع من المواضيع. ويكون الهدف في كل ذلك هو تشخيص عيوب المجتمع، وتبليغ رسائل أخلاقية للجمهور.




[1]- نفضل تعريب (Classique) بالكلمة العربية "كلاسي"، بدل كلمة "كلاسيكي" الشائعة؛ ذلك لأن الياء كاف للدلالة على النسبة (que).
[2]- هي كومبديا الفن (Commedia dell'arte) الإيطالية، التي تُسمى أيضا "الكوميديا المرتجلة"، لأنها عبارة عن مسرح شعبي يعتمد ارتجال الممثلين المحترفين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

    المسرح في العصر الوسيط ا لأستاذ عبد الواحد المرابط   يقع العصر الوسيط بين العصر القديم والعصر الحديث، حيث بدأ مع سقوط الإمبراطورية...