الخميس، 30 أبريل 2020

مسرح العبث


الأستاذ عبد الواحد المرابط
------------------------------------------

 

مسرح العبث

الإنسان ضائع في العالَم، وتائه في وجودٍ عبثي لا جدوى منه؛ وبالتالي فهو غير قادر على فعل أي شيء سوى ما تفرضه عليه العادات الاجتماعية، وغير قادر على التعبير لأن المعنى مفقود والدلالة ضائعة، وليس له من يقين غير يقين الموت... هذه بعض الأفكار الأساس التي انبنت عليها الرؤية العبثية في المسرح المعاصر. لكن، أليس في تعبيرِ أصحاب هذه الرؤية عن "لا معنى" الوجود صياغةٌ خاصة بهم لمعنى هذا الوجود ذاته؟ وحين نقول إن العالَم لا معنى له، ألا نكون بذلك قد خَصَّصْناه بإحدى الدلالات وربطناه بأحد المعاني؟

يتبين معنى هذا "اللّامعنى" حين نستحضر السياق التاريخي لظهور مسرح العبث (Théâtre de l’absurde)؛ أي سياق منتصف القرن العشرين، بعد حربين عالميتين خلفتا دمارا وخرابا على جميع الأصعدة والمستويات، فاتضحت المآلات الوخيمة التي انتهت إليها الثورة الصناعية، وانهارت القيم التي انبنت عليها النزعة الإنسانية (Humanisme)، وفقد المثقفون ثقتهم في شعارات التقدم والتطور والازدهار...

يُرجِع بعضُ الباحثين الأصولَ الفكرية لمسرح العبث إلى مجموعة من الكتابات السابقة، التي تضمنت أحداثا غير معقولة أو شخصيات عابثة؛ منها كتابات ألفريد جاري[1] وجان بول سارتر[2] وألبير كامو[3] وأنطونان أرطو[4]، وأعمال الدادائيين[5] والسُّرياليين[6]. غير أن لهذا المسرح مرجعيةً ثقافية وأرضيةً فكرية وخاصيات فنيةً ميزته برؤية وأسلوب خاصين في الكتابة، تَجَسَّدا في أعمال أرتور أداموف[7] وفيرجيليو بّينيرا[8] وجان جوني[9] وصامويل بيكيت[10] وأوكين يونيسكو[11] وهارولد بّينْتير[12] وغيرهم... ورغم أن كل واحد من هؤلاء الرواد تميز بنزعته الفردية وطابعه الشخصي، فقد كان يجمع بينهم رفضُهم لتقاليد الدراما الغربية، من حيث بنيتها المنسجمة وحبكتُها المترابطة وأحداثها المتسلسلة والمتطورة وحواراتها التواصلية وشخصياتها ذات العمق السيكولوجي والاجتماعي.

لقد كان مسرح العبث أكثر جرأة من المسرح الملحمي في الثورة على تقاليد المسرح الدرامي ومواضعاته، إذ فَكَّك الحبكةَ أو غَيَّبها تماما، وقطع خطيةَ الأحداث أو كسر تطورها، وأفرغ الشخصيات من محتوياتها النفسية ومضامينِها الاجتماعية، ومحا معالم الزمن وسمات المكان، وفكك نظام اللغة والعلامات الركحية؛ فكان بذلك أكثر حسما في انحسار عهد الدراما وبداية عهد مسرحي جديد يُسمى "مسرح ما بعد الدراما" (Théâtre post-dramatique).

إن القضية الأساس التي عالجها مسرح العبث هي قضية الشرط الإنساني المضطرب، الذي أفقد الناسَ إحساسهم بالانسجام والأمان، وقتل لديهم الأملَ في المستقبل، ورَسَّخ لديهم شعورا بهشاشة الإنسان وعبثية الحياة ولا جدوى الوجود. وقد تجلت هذه القضية في طيمات وموضوعات صادمة من قبيل الموت والانتحار واليأس والقُنوط والوحدة والملل والضياع، وغير ذلك مما يعيشه الإنسان في حياته اليومية المتكررة التي تبعث على الغثيان. وقد لامس كُتّاب مسرح العبث هذه الموضوعات من خلال تغييب الحبكة المسرحية أو تكسير منطقها الدرامي، ومن خلال تحطيم التطور السردي للأحداث أو جعلها تتكرر بشكل سَرْمَدي. وأدى بهم ذلك إلى إلغاء الزمن أو جعله دائريا يعيد نفسه إلى ما لا نهاية، وإلى تجريد المكان من هويته الجغرافية أو الاجتماعية أو التاريخية. أما الشخصيات المسرحية فقد صارت تجسد كائنات تائهة تخبط خبط عشواء، دون هوية واضحة تعطيها عمقا سيكولوجيا، ودون حالة مدنية تحددها اجتماعيا. وأما لغة الحوارات فقد اتجهت نحو تحطيم الدلالة وهدم المعنى المشترك، من خلال كلمات شاردة وخشنة وجمل مُفَكَّكَة وأساليب بارودية فجة؛ مما يؤكد استحالةَ التواصل في زمن الضياع. وقد انعكست هذه الخصائص على مستوى الإخراج والتمثيل والعناصر السينوغرافية، حيث قد يدل الديكور على اللّامكان ويكسر اتجاه الزمن، وقد لا تخضع الأحداث لتقسيم مشهدي يبرز خطيتها.

يمكن أن نقترب من الموضوعات والشخصيات التي انشغل بها مسرح العبث، من خلال إشارات موجزة إلى مسرحية "الكراسي" لأوكين يونيسكو (Les Chaises)، ومسرحية "في انتظار كودو" (En attendant Godot ) لصامويل بيكيت:

- كتب يونيسكو مسرحية "الكراسي" سنة 1951 ونشرها سنة 1954، بعد أن كان عرضُها الأول في باريس سنة 1952. وهي تعرض حالةَ رجل مُفَكِّر يبلغ من العمر 95 سنة، يعيش مع زوجته العجوز (94 سنة) في منزل منعزل تحيط به مياه عميقة الغور، حيث يكرران يوميا نفس الكلام والحكايات والحركات... ولكي يخرجا من الرتابة والملل، استدعى الرجل كبارَ شخصيات العالم ليبلغهم رسالة في غاية الأهمية، تتضمن خلاصة حياته وتجربته، وتُرْشِد البشرية إلى ما يُخْرِجُها من بؤسِها وشقائها... ولما حان الموعد بدأت الشخصيات المهمة تتوافد تباعا على المنزل؛ فكلما طُرِق البابُ هَبَّ الزوجان إلى استقبال الضيف والترحيب به ودعوته إلى الجلوس على كرسي في انتظار باقي المدعوين. ولما اكتمل الجمع واستعد الضيوف لسماع الخطاب التاريخي، أخبرهم الرجل المسن بأنه لا يستطيع إلقاء خطاب بليغ يليق بجلالة الموضوع وبالمقام العالي للحاضرين، وأنه لذلك قد كَلَّف خطيبا محترفا يتكفل بهذا الأمر؛ ثم وَدَّعهم وألقى بنفسه من النافذة منتحرا، فالتحقت به زوجته... بقي الجمهور وجها لوجه أمام الخطيب، فكانت الصدمة...

اتضح أن الجمهور قد خُدِعَ مرتين: خُدِع في البداية لَمّا سايَر الزوجين في استقبالهما شخصيات وهمية ليس لها وجود فعلي، فالكراسي فارغة لا تدل إلا على الغياب؛ وخُدِع في النهاية لَمّا تَبَيَّن أن الخطيب أصمُّ أبكمُ، لا تصدر عنه إلى أصوات مبعثرة وكلمات مفككة خالية من المعنى.

- كتب بيكيت مسرحية "في انتظار كودو" سنة 1948 ونشرها سنة 1952، ثم كان عرضُها الأول في باريس سنة 1953. وهي تقدم وقائعَ لقاء يومي بين رجلين متشردين، فلاديمير (Vladimir) وإسْتْراكون (Estragon)، التقيا على قارعة الطريق قرب شجرة لا أوراق فيها، وطَفِقا يُزَجِّيان الوقت بحوارات غير متناسقة وأفكار غير متبادلة حول الحياة والوجود والشقاء، في انتظار شخص ثالث اسمه كودو (Godot). وأثناء ذلك مَرَّ بهما رجل متجبر يُعَنِّف خادمَه ويُهينه، ثم جاء طفل ليخبرهم بأن كودو لن يأتي اليوم وأنه سيأتي غدا. تَذَكَّرا أنهما ربما عاشا هذا المشهد من قبل، فانسحبا بعد أن ضربا موعدا جديدا.

وفي الغد، حضر فلاديمير وإستراكون إلى المكان نفسه، حيث تغيرت هيئة الشجرة وانبثقت منها الأوراق، فعاشا حالة الانتظار نفسها، ومر بهما المتسلط وخادمه فتبينا أن الأول أعمى والثاني أخرس، ثم انتهى الأمر بمجيئ الفل الذي أخبرهما مرة أخرى بأن كودو لن يأتي اليوم وأنه قد يأتي غدا. وعلى إثر ذلك عزما على الانتحار، فعلق إستراكون حزام سرواله على أحد فروع الشجرة لكنه تمزق. اتفقا أخيرا على مغادرة المكان ليلتقيا غدا ومعهما حبل متين، فينتظرا كودو من جديد.



[1]- ألفريد جاري (Alfred Jarry)، شاعر وروائي وكاتب مسرحي فرنسي، مات سنة 1907.
[2]- جان بول سارتر (Jean-Paul Charles Aymard Sartre)، كاتب وفيلسوف فرنسي، مات سنة 1980.
[3]- ألبير كامو (Albert Camus)، كاتب وفيلسوف فرنسي، مات سنة 1960.
[4]- أنطونان أرطو (Antonin Artaud)، شاعر وكاتب ومسرحي فلانسي، مات سنة 1948.
[5]- الدادائية (dadaïsme) حركة أدبية وفنية فنية ظهرت في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين، ترفض جميع التقاليد والقيم الجمالية والإيديولوجية والسياسية، وتفتح الباب لحرية التعبير عن خراب العالم وعبثية الوجود. من أعلام هذه الحركة الأديب الألماني هيكو بال (Hugo Ball) (ت 1927) الذي نشر "البيان الأدبي" سنة 1915، والأديب السويسري (الروماني الأصل) تريستان تزارا (Tristan Tzara) (تـ 1963) الذي نشر "بيان الدادائية" سنة 1918.
[6]- السُّريالية (Surréalisme ) حركة أدبية وفنية تفرعت عن الدادائية، وانتشرت في أوروبا خلال النصف الأول من القرن العشرين، تنطلق في الإبداع من القوى النفسية المتحررة من قيود العقل والنظام الاجتماعي، وتعتمد آليات الحلم والرغبة الداخلية. من أعلامها أندري بروطون (André Breton) (تـ 1966)، الذي نشر "بيان السريالية" سنة 1924، وروبير دينوس (Robert Desnos) (تـ 1945) وبّول إلْوار (Paul Éluard) (تـ 1952) ولويس أراكون (Louis Aragon) (تـ 1982) وفيليب سوبّو (Philippe Soupault) (تـ 1991)...
[7]- أرتور أداموف (Arthur Adamov)، كاتب ومترجم ومسرحي فرنسي من أصول روسية- أرمينية، مات سنة 1970.
[8]- فيرجيليو بّينيرا لييرا (Virgilio Piñera)، شاعر وكاتب ومسرحي كوبي، مات سنة 1979.
[9]- جان جوني (Jean Genet)، شاعر وكاتب ومسرحي فرنسي، مات سنة 1986.
[10]- صامويل بيكيت (Samuel Beckett)، شاعر وكاتب ومسرحي إيرلندي، كان يكتب باللغتين الفرنسية والإنكليزية، فائز بجائزة نوبل في الآداب 1968، مات سنة 1989.
[11]- أوكين يونيسكو (Eugène Ionesco)، كاتب مسرحي فرنسي من أصل روماني، مات سنة 1994.
[12]- هارولد بّينتِر (Harold Pinter)، كاتب ومخرج مسرحي بريطاني، حائز لجائزة نوبل في الآداب 2005، مات سنة 2008.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

    المسرح في العصر الوسيط ا لأستاذ عبد الواحد المرابط   يقع العصر الوسيط بين العصر القديم والعصر الحديث، حيث بدأ مع سقوط الإمبراطورية...