الثلاثاء، 28 أبريل 2020

المسرح الرمزي


الأستاذ عبد الواحد المرابط

------------------------------------------

المسرح الرمزي

ظهر المسرح الرمزي (Théâtre symboliste) في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر، وامتد إلى بدايات القرن العشرين. وقد كان منطلقه أفكار الكاتب والموسيقي والمخرج الألماني ريشارد فاكْنر (Richard Wagner) (تـ 1883)، الذي انتقد التصورات الواقعية والطبيعية التي تختزل العالم في صور جزئية، ودعا إلى رؤية مسرحية متكاملة تشمل جوانب الإنسان الروحية وأعماقه اللاشعورية. واستفاد هذا المسرح أيضا - في مرحلة من مراحل تطوره - من أفكار العالم النمساوي سيكموند فرويْد (Sigmund Freud) (تـ 1939) المتعلقة بأعماق الإنسان وعقله الباطن، أي ”الّاشعور“.
انبنى المسرح الرمزي على تصور روحي للعالم، يتجاوز المظاهر الحسية إلى الأبعاد الدلالية العميقة، التي لا ندركها بالعقل ولكننا نصل إليها بالشعور والخيال؛ لذلك رفض الرمزيون الاتجاهين الواقعي والطبيعي، اللذين يستنسخان الواقع والعالَم بطريقة حرفية ويقدمانهما في صور مختزلة وضيقة، دون أن يستطيعا النفوذ إلى جوهرهما أو حقيقتهما. فالعالَم عند الرمزيين لا يُختزَل في مظاهره المحسوسة، ولا تحيط به المعرفة العقلية، بل هو لغز عميق تقودنا إليه رموز مجردة وموحية لا سبيل إلى استكشافها إلا بالخيال. فهذا الأخير هو المَلكة الوحيدة التي تمكن الإنسان من إدراك الحقيقة واستنباط المعاني الخفية الكامنة وراء الظواهر المحسوسة.
يغوص المسرح الرمزي في روح الإنسان وعقله الباطن، ويستكشف البعدَ اللاعقلاني للعالَم، من خلال خلق عوالم أسطورية ومثالية يجد فيها الجمهور تجربته الخاصة، ضمن رؤية رمزية تجمع بين المادي والروحي، وبين المرئي واللّامرئي، وبين مظهر الأشياء وعمقها. لذلك سعى الرمزيون إلى مسرح متكامل تجتمع فيه جميع العناصر الدرامية ضمن رؤية إبداعية تطال الكاتب والمخرج والممثل والمتفرج، وتزج بهم جميعا في عوالم غريبة وعجيبة مليئة بالرموز والأسرار، من خلال لغة درامية وسينوغرافية غامضة ومُلغزة، تخاطب لاوعي الإنسان فتجعله يَرى ما لا يُرى. وهكذا تحفل المسرحيات الرمزية بالأحلام والأسرار والألغاز، وبالشخصيات الحالمة ذات الحالات النفسية الغامضة، فضلا عن لغتها الإيحائية التي تومئ إلى الأشياء دون أن تُعَيِّنها.
تَجَسَّد المسرح الرمزي في أعمال كُتّاب ومخرجين كُثُر؛ منهم الفرنسيون بّول كلوديل (Paul Claudel) (تـ 1955) وأوريليان أوكْني (Aurélien Lugné-Poe) (تـ 1940) وألفريد جاري (Alfred Jarry) (تـ 1907)، والبلجيكيون موريس ميتِرْلينْك (Maurice Maeterlinck) (تـ 1849) وشارل فان ليربيرك (Charles Van Lerberghe) (تـ 1907) وجورج رودينباك (Georges Rodenbach) (تـ 1898)، والروسيان أنْطون تشيكوف (Anton Tchékhov) (تـ 1904) وفزيفولود مايّيرهولْد (Vsevolod Meyerhold) (تـ 1940)، والنرويجي هنريك إيبْسن (Henrik Ibsen) (تـ 1906)، والسويدي أوكست ستريندبورك (August Strindberg) (تـ 1912)، والسويسري أدولف أبّْيا (Adolphe Appia) (تـ 1928) والبريطاني كوردن كْريك (Gordon Craig) (تـ 1966)...
كتب الأديب البلجيكي موريس ميترلينك[1] (1862- 1949) مسرحيةَ ”الطائر الأزرق“ (L’Oiseau bleu) سنة 1906، ونشرها في باريس سنة 1909. وقد تُرْجِمت هذه المسرحية إلى الألمانية (1910) وإلى الإيطالية (1915) وإلى الإسبانية (1916)، ثم توالت ترجماتُها إلى الدنماركية والهولندية والعبرية وغيرها من اللغات، منها الترجمة العربية التي أنجزها يحيى حقي سنة 1966، ونُشرت في العدد 72 من سلسلة ”روائع المسرح العالمي“ (الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة). وبالإضافة إلى الترجمات العديدة، تَمَّ نقل المسرحية، عن طريق الاقتباس، إلى أفلام سينمائية وأوبّيرات غنائية ومسلسلات تلفزيونية كثيرة.
كان العرضُ الأول لهذه المسرحية من إخراج كونستنتين ستانيسلافسكي (Konstantin Stanislavski) (تـ 1938) في مسرح الفن بموسكو سن 1908، ثم عُرِضت في لندن سنة 1909، وفي نيويورك سنة 1910، وفي باريس سنة 1911. ومنذ ذلك الحين لم تتوقف عروضها، ولم يتوقف تفاعل الجمهور معها.
تعرض هذه المسرحية (في خمسة فصول) حكايةً من قصص الجِنِّيّات، من خلال حلم طفولي مليء بالعجائب والأسرار، يفضي بالإنسان إلى رؤية ما لم يكن يراه. يتعلق الأمر بابْنَي الحطاب الفقير تيل (Tyl) وزوجته، الطفل تيلْتيل (Tyltyl) وأخته الطفلة تيتيل (Tytyl)، اللذين وضعتهما أمُّهما في الفراش، لكن النوم جافاهما فقررا أن يطلا من النافذة ليشاهدا كيف يحتفل أبناء الأغنياء بعيد الميلاد، وكيف يحصلون على الألبسة الفاخرة والحلويات والألعاب؛ مما جعلهما يشعران بالأسف والحزن والحسرة، لأنهما لا يملكان إلا ملابس بالية وعصفورا عاديا في القفص... في هذه الأثناء طرقت بابَهما الجنيةُ بيريلين (Bérylune)، فكلفتهما برحلة للبحث عن طائر أزرق يحقق السعادة لمن يصطاده، ونصحتهما بالعثور أولا على ماسَّة سحرية تزرع الروح في الكائنات التي سيجدانها في رحلتهما، كما أعطتهما قبعة عجيبة وضوءا سحريا ينير طريقهما...
وفي رحلتهما العجيبة تلك، مَرّا بسبعة مواقع (بلاد الذكريات، وقصر الليل، والغابة العجيبة، والمقبرة، وحديقة السعادة، ومملكة المستقبل)، فالتقيا جدَّهما وجدَتَهما الميتين، وأخاهما الصغير الذي لم يولد بعد، بالإضافة إلى شخصيات وكائنات أخرى عديدة. وقد اكتشفا في كل موقع من تلك المواقع أن حقيقة الأشياء عكس مظاهرها، وأن الطائر الأزرق سرعان ما يغير لونه إن تم اصطيادُه. عاد الطفلان إلى عالمهما الواقعي حين أيقظتهما أمهما من النوم، فاكتشفا أنهما ربما قد عاشا حلما مشتركا؛ لكنهما لاحظا أن عصفورهما في القفص قد صار أزرق اللون، وأن منزلهما صار بهيا وحياتهما غدت سعيدة. قررا أن يحبا الناس، فقدَّما طائرهما الأزرق لبنت الجيران المريضة فشفيت، ثم أرادت أن ترى الطائر عن قرب وتداعبه، لكنه انفلت منها وطار بعيدا. انتهت المسرحية بحوار يقدمه الطفل تيلتيل للجمهور: "إذا وجد أيٌّ منكم الطائرَ الأزرق فليحضره إلينا؛ نحن بحاجة إليه لنكون سعداء حين نكبر".





[1]- حاصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1911.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

    المسرح في العصر الوسيط ا لأستاذ عبد الواحد المرابط   يقع العصر الوسيط بين العصر القديم والعصر الحديث، حيث بدأ مع سقوط الإمبراطورية...