الأستاذ عبد الواحد المرابط
------------------------------------------
● المسرح الملحمي
تبلور المسرح الملحمي (théâtre épique) (episches Theater) في ألمانيا
خلال النصف الأول من القرن العشرين، انطلاقا من تصورات وتجارب الروسي فلاديمير
ماياكوفسكي[1] والألمانيَّيْن فْزيفولود
مايّيرهولد[2] وإِروين بّيسْكاتور[3]. فقد سعى الأول إلى تأسيس
مسرح سياسي يعتمد البعدَ التاريخي والاجتماعي، ووضع تجربته في خدمة الثورة البولشِفية،
بعد أن كان في شبابه منتميا إلى الاتجاه المستقبلي (Futuriste)؛ وسعى الثاني إلى مناهضة تقاليد الدراما الطبيعية، وإرساء مسرح
سياسي يقوم على التشخيص كآلية جسدية حية، وتمرير "فكرة أساسية" (pensée fondamentale)
حول التاريخ والمجتمع؛ أما الثالث فقد سعى إلى تأسيس مسرح سياسي بروليتاري يُرَوِّج
فكرةَ الصراع الطبقي، ويساهم في الثورة الاشتراكية، ويوظف في ذلك تقنيات الصورة
والسينما والأشرطة الوثائقية والمنصات الدائرية المتحركة.
وقد وصل هذا المسرح الملحمي إلى صياغته
الكاملة مع بِرْتولد بريشت[4]، الذي استجمع تلك التجارب
وبلورها في صياغة نظرية وممارسات ركحية ذات أبعاد جدلية وسياسية وتعليمية؛ فجعل من
المسرح الملحمي أحد المنعطفات الفكرية والجمالية الكبرى التي نقلت الممارسة
المسرحية من عهد الدراما إلى عهد ما بعد الدراما... يتعلق الأمر بأسلوب مسرحي جديد
مناهض لتقاليد المسرح الكلاسي الأرستقراطي والمسرح الدرامي البورجوازي على السواء:
فقد رفض - من جهة أولى - مبدأ "الاحتمال" (Vraisemblance) وما ترتب عنه من قواعد وحدة الحدث والزمان والمكان، ومن تمييز نوعي
بين التراجيديا وكوميديا؛ ورفض - من جهة أخرى - أشكال بناء الدراما الحديثة وما
ترتب عنها من تسلسل في الأحداث ومن إيهام مسرحي.
انطلق المسرح الملحمي من موقف أولي
وأساسي، هو رفض المحاكاة (Mimésis) بكل مظاهرها
وتجلياتها وبكل تقنياتها ووسائلها؛ وبناء على هذا الموقف أسس جماليتَه الخاصة
ليتجه بالممارسة المسرحية وجهة سياسية ذات منحى تحليلي وتعليمي، دون أن يفرط في
الجوانب الفنية والفرجوية.
اعتمد تقنية السرد في توجيه الحدث
المسرحي، حيث كَسَّر تناميه الخطي، وقطَّعه إلى مشاهد منفصلة تتخللها تعليقات
سردية أو تحليلية أو غنائية تُبرز التقابلات والتناقضات، وتسمح للمتفرج بأن يكون
أمام العرض لا داخله، وأن يقف بالتالي على مسافة واعية تُجَنِّبُه الانغماس
العاطفي وتُبْعِده عن الإيهام المسرحي، ومن ثمة تدفعه إلى التحليل والتفكير
والمساهمة في مناقشة القضية التي تعرضها المسرحية. وهكذا فالمسرح الملحمي قد
استبدل السردَ بالحدث والرؤيةَ بالوقائع والتركيبَ (المونطاج) بالتطور والتفكيرَ
بالعاطفة...
تَرَتَّب عن اعتماد السرد في توجيه
الحدث أسلوبٌ مسرحي متفرد يقوم على "خلق المسافة" (Distanciation) (Verfremdungseffekt )؛ وهي تعني إحداثَ نوع من التباعد بين الممثل والدور الذي يشخصه
من جهة، وبين الجمهور والعرض المسرحي الذي يشاهده من جهة أخرى. فالممثل الملحمي لا
يتقمص الشخصيات بل يشخص الأدوارَ ويحتفظ بحقه في الانفصال عنها وتحليلها ومناقشتها
والتعليق عليها، مع تذكير الجمهور بأن الأمر يتعلق بأحداث تخيلية يتم تقديمها في
لعبة مسرحية تخاطب العقل وتستدعي النقاش. ويترتب على ذلك تكسير "الجدار
الرابع" (Quatrième mur)،
أي ذلك الجدار الوهمي الفاصل بين الممثلين والجمهور والذي رسخته الممارسة المسرحية
الغربية عبر تاريخها الممتد قديما وحديثا، في سعيها إلى خلق الاحتمال والإيهام
المسرحي، اللذين يَزُجّان بعواطف المتفرج في عوالم الحدث التخييلي، ويَشُلّان
قدرته على التحليل والتفكير والنقد.
إن هذه المسافة، التي تحول دون تقمص
الممثل للشخصيات ودون اندماج المتفرج في الأحداث، تُخْرِج تلك الشخصيات وتلك
الأحداث من دائرة العادي والمألوف وتجعلها متسمة بنوع بالغرابة؛ مما يسمح بتأملها
في سياق جديد يثير الدهشة والفضول بقدر ما يثير الانتباه والتفكير. وذلك لأن
الأشياء التي تبدو عادية لا نفكر فيها، فإذا نُزِعَت عنها مظاهرُها المألوفة أو
"البديهية"، وتَمَّ تقديمُها في سياقات جديدة، تَبَيَّنَت غرابتُها
واستدعت من الجمهور إعادة تفكير وتأمل. فالمسرح الملحمي يفترض أن جمهوره يعيش
أوضاعا اجتماعية غير عادية وغير عادلة، لكن هذا الجمهور لا ينتبه إلى ذلك بحكم
العادة، كما لو كانت معاناتُه طبيعية أو بديهية؛ لذلك يعرض المسرح تلك الأوضاع وفق
تركيب مخالف لما هي عليه في الواقع، وبمنظور تاريخي يبرز اختلالاتها، مما يدفع
المتفرج إلى إعادة النظر في نفسه وفي مجتمعه وفي لحظته التاريخية. وهكذا فـ"المسافة"
من أهم خاصيات المسرح الملحمي، لأنها تؤدي إلى تغريب الشخصيات والأحداث، وتجعل
الممثلين والجمهور يربطون علاقة جديدة بها تَقْدَح زِناد التفكير وتبعث على
التأمل.
بناء على ذلك، فالمسرح الملحمي قد اتجه
وجهة سياسية ثورية في سياق الممارسة الاجتماعية؛ فهو لم يسعَ إلى تصوير المجتمع
وفق آلية المحاكاة الأرسطية أو آليات الانعكاس الدرامية، بل دعا جمهورَه إلى أن
يرى كيف يمكن تغيير المجتمع والاتجاه به نحو العدالة الاجتماعية، مستعينا في ذلك
بـ"السَّوْق التاريخي" (historicisation)
الذي يربط الحدث المسرحي بسياق تاريخي يضيئه وبنظام اجتماعي يفسره. وهكذا فالمتفرج
لا يأتي إلى المسرح لكي يشاهد المجتمع وإنما لكي يفكر فيه ويحلله وفق رؤية تاريخية
واسعة، فتتولد عنده الرغبة في الثورة والتغيير.
وفي إطار هذه الرؤية الفكرية
والجمالية، سعى المسرح الملحمي إلى أن يجعل العناصر السينوكرافية شفافة وفعالة في
تحقيق فرجة واعية، لذلك ركز على دور الراوي في تنظيم المشاهد والأحداث، ودور
الممثل في كسر الجدار الرابع وإشراك الجمهور، ودور الديكور في كسر الإيهام
المسرحي، ودور الإضاءة الكاشفة في إضفاء الشفافية على المواقف والقضايا، ودور التقنيات
الصوتية والبصرية في إيقاف الحدث والتعليق عليه، ودور التقسيمات الرُّكحية في فصل
المشاهد عن بعضها البعض وإبعادها عن التسلسل والترابط التقليديين، بالإضافة إلى ما
تضطلع به العناصر الأخرى من وظائف في هذا الإطار...
لإبراز جانب من مواضيع المسرح الملحمي
وقضاياه، نقدم إشارات سريعة إلى مسرحية "دائرة الطباشير القوقازية" (Le Cercle
de craie caucasien) (Der
kaukasische Kreidekreis)، التي كتبها
بيرتولد بريشت سنة 1945 وقدمها للمسرح سنة 1948 ونشرها سنة 1949:
بداية المسرحية ونهايتها تقعان في إحدى
المزارع الاشتراكية (الكُلْخوزات) في منطقة القوقاز أواسط القرن العشرين، حيث يدور
الصراع بين مالِكي الأرض الأصليين من جهة والمزارعين الذين يحرثون الأرض ويهتمون
بها من جهة أخرى. غير أن هذا الصراع سرعان ما يأخذ أبعادا عامة من خلال "السَّوْق
التاريخي" لوقائع تاريخية تسمح بفهمه ضمن سياق أوسع. فقد اضطلع الراوي
أرْكادي (Arcadi) بسرد أحداث صراع حول أحقية
الأمومة، وقع بين امرأتين في جورجيا قديما، ودعا سكان المزرعة إلى تشخيص الأدوار
ومواكبة الوقائع بالتعليقات والتفسيرات والغناء، ومن ثم انبنت المسرحية على تقنية
التمثيل داخل التمثيل.
الوقائع والأحداث التي يتم حكيُها
وتشخيصُها تتعلق بانقلاب وقع في إقليم نوخا (Nukha)
بجورجيا، حيث قُتِل الحاكم ، وفَرَّت زوجته ناتيلّا (Natella)، بعد أن تخلت عن ابنها الصغير ميشيل (Michel) عند خادمتها كروشا
(Groucha). وبما أن الثوار بدأوا يبحثون عن هذا الطفل ليقطعوا دابر العائلة
الحاكمة، فقد أخفته كروشا وقطعت به جبال القوقاز، فعانت جراء ذلك الكثيرَ من المصاعب
والأخطار، حيث كان عليها أن تتخلى عن خطيبها، وأن تجد الحليب للطفل، وأن تفلت من
الثوار الذين يتعقبونها... وبعد سنوات، فشلت الثورة وعادت ناتيلّا إلى قصرها، ثم
طالبت بابنها ميشيل؛ غير أن كروشا تشبثت به، فعُرِضَت القضية على القاضي أزداك (Azdak)،
الذي قرر أن يرسم دائرة بالطباشير ويضع الطفل داخلها ثم يطلب منهما أن تجذباه كل
واحدة من جهتها، فمن استطاعت أن تسحبه نحوها حصلت على الحق في الأمومة... وقد تَبَيَّن
في الأخير أن تلك المنافسة لم تكن إلا حيلة وضعها أزداك ليصل (بمعية الجمهور) إلى أن
الأحق بالأمومة هي كروشا، لأنها رفضت أن تجر الطفل بعنف حتى لا يُلْحَق به الضرر.
وهكذا يتم بسط حكاية تاريخية، من خلال
التمثيل داخل التمثيل، لجعل الجمهور يعيد النظر في قيم الروابط الدموية والشرعية،
وفي معايير المِلْكية والقوانين التي تحميها، وفي التقاليد الاجتماعية التي لا
تخضع للحب والعدل. وقد اعتمدت هذه المسرحية تقنية "خلق المسافة" في عدة
مستويات، فاستدعت الجمهور إلى المشاركة في تقييم الأوضاع الدرامية بحس تاريخي
ونقدي؛ فهناك سَوْقٌ تاريخي يواجه أحداث الحاضر بأحداث الماضي فيثير الذاكرة
الجماعية، وهناك تمثيل داخل التمثيل، وهناك سارد يتوجه إلى الجمهور فيجعله دائما
على مسافة نقدية من الأحداث، وهناك ممثلون يتناوبون على تشخيص الأدوار دون تقمصها
أو الانغماس فيها، فضلا عن تقطيع الحكاية في مشاهد منفصلة والغناء الجماعي الذي
يعيد الجمهور إلى الحكاية الأصل ويحثه على التحليل والربط والتفكر.
[1]- فلاديمير ماياكوفسكي (Vladimir Vladimirovitch Maïakovski)، شاعر وكاتب مسرحي سوفياتي، مات سنة 1930.
[2]- فْزيفولود مايّيرهولد (Vsevolod Meyerhold)، كاتب ومخرج مسرحي روسي، مات سنة 1940.
[3]- إروين بّيسكاتور (Erwin Piscator)، مخرج مسرحي ألماني، مات سنة 1966.
[4]- بِرْتولد بريشت (Bertolt Brecht)،
شاعر وكاتب مسرحي ومخرج مسرحي ألماني، مات سنة 1956.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق