الخميس، 3 فبراير 2022

 


حول القصة

 

عبد الواحد المرابط

 

القصة جنس أدبي حديث، يقوم على السرد، وينحو منحًى فنيا وجماليا خاصا يميزه عن الأشكال الحكائية التراثية من جهة وعن باقي الأجناس والأنواع السردية الحديثة من جهة أخرى. وقد تعددت الكتابات القصصية، وتباينت من حيث مذاهبها واتجاهاتها ورؤياتها وتقنياتها وأساليبها، حتى أصبح من المتعذر تعريف القصة انطلاقا من خصائص قارة وثابتة. غير أن التقاليد الفنية والجمالية التي رَسَّخَتْها تجارب المبدعين في هذا المجال تسمح برسم معالم عامة للقصة القصيرة باعتبارها جنسا أدبيا:

فهي على المستوى النصي تروم القِصَرَ المُعَبَّرَ عنه بعدد الكلمات، مع الاقتصاد في التعبير، والميل إلى التكثيف والتركيز، والاختزال عن طريق التضمين والإيجاز. وهي على المستوى الدلالي والموضوعاتي تُرَكِّزُ على جانب من جوانب الحياة أو حَدَثٍ من أحداثها أو لَحْظَةٍ من لَحَظاتها، فتسلط عليها الضوء انطلاقا من موقف واحد غني بالدلالات، أو من رؤية واحدة للعالم، يَتِمُّ بموجبها التعبيرُ عن ما هو جماعي من خلال ما هو فردي، وعن ما هو عامّ عن طريق ما هو خاص، في إطار وحدة موضوعاتية تُجَلّي الكُلَّ من خلال الجُزْءِ. وهي على المستوى التداولي تقوم على الإيحاء والتشويق والمفاجأة، وعلى تحقيق وَحْدَةِ الأثر والانطباع. كما أنها، من الناحية التَّناصِّيَة، تنفتح على التراث وعلى اللغات المتعددة وعلى التجارب الكتابية المختلفة وعلى الأجناس والأنواع الفنية الأخرى، حيث تتداخل مع أشكال حكائية تراثية كالحكاية والمثل والمقامة والخبر والخرافة والأسطورة، ومع أجناس أدبية حديثة كالرواية والمسرحية والشعر، فضلا عن اقتباسها لتقنيات الكتابة السينمائية، واستيحائها لمنظورات الفنون التشكيلية وغيرها.

ظهرت القصة القصيرة في الآداب الغربية أوائلَ القرن التاسع عشر، في سياق تحولات تاريخية وسياسية واجتماعية عميقة، تمخضت عن المجتمعات الحديثة، واستوجبت أشكالا تعبيرية جديدة تُعَبِّرُ عن قضايا الإنسان. وقد تبلورت النماذج القصصية الأولى في النصف الأول من القرن التاسع عشر، عند الكاتب الروسي نيكولاي كوكول (Nikolaï Gogol) الذي خرج عن تقاليد الكتابة السردية التراثية ذات الطابع الأسطوري، ومال نحو قضايا الواقع وأفراد الشعب، وعند الكاتب الأمريكي إدكار ألان بّو (Edgar Allan Poe)، الذي اهتم بالبناء الدرامي للأحداث من أجل إحداث المتعة الفنية لدى القراء.

وفي النصف الثاني من القرن ذاته، تبلورت نماذج قصصية أخرى أكثر تطورا، مَثَّلَتْها أعمالُ الكاتب الروسي أنطون تشيكوف (Anton Tchekhov)، والكاتب الفرنسي كي دو موبّاسان (Guy de Maupassant). ثم بعد ذلك انتشر هذا اللون الفني وازدهر في مختلف أرجاء العالم، بصفته جنسا من الأجناس الأدبية الحديثة.

وقد بدأت القصة القصيرة تجد طريقها إلى الأدب العربي خلال أوائل القرن العشرين، من خلال تجارب كتابية رائدة ابتعدت تدريجيا عن الأشكال الحكائية التراثية التي كانت لا تزال سائدة، وخصوصا منها المقامات وأدب الأمثال؛ وذلك في سياق تمظهرات النهضة العربية الحديثة وما ساوقها من استحداث أشكال أدبية وقوالب فنية جديدة.

تجسدت التجارب القصصية العربية الأولى في كتابات الأديب اللبناني(المهجري) ميخائيل نعيمة، وفي كتابات الأديب المصري محمد تيمور، بدءا من سنة 1914. ثم تبلورت بعد ذلك- على امتداد القرن العشرين- من خلال كتابات الأدباء زكريا تامر ومحمود تيمور ومصطفى لطفي المنفلوطي ويوسف الشاروني ويوسف إدريس وعبد العاطي أبو النجا ومحمد صدقي وغيرهم.

أما في المغرب، فقد ظهرت النماذج القصصية الأولى بين ثلاثينيات القرن العشرين وخمسينياته، من خلال كتابات مصطفى الغرباوي وعبد الرحمان الفاسي وعلال الجامعي وأحمدالمدني الحمراوي وعبد الله إبراهيم ومليكة الفاسي ومحمد حصار وأحمد بناني وعبد العزيز بنعبد الله وعبد المجيد بن جلون وعبد الكريم غلاب ومحمد الخضر الريسوني وآمنة اللوه وعبد الهادي الشرايبي. وقد تكاثرت بعد ذلك التجارب القصصية المغربية وتطورت وتنوعت؛ في الستينيات مع مبارك ربيع وعبد الجبار السحيمي وأحمد عبد السلام البقالي وإدريس الخوري ومحمد زفزاف ومحمد إبراهيم بوعلو ومحمد بيدي والأمين الخمليشي ومحمد زنيبر وخناثة بنونة ورفيقة الطبيعة (زينب فهمي) وفاطمة الراوي ومحمد عزيز الحبابي ومحمد زفزاف وطه أبو يوسف ومحمد بن أحمد اشماعو؛ وفي السبعينيات مع أحمد زيادي ومحمد برادة ومصطفى يعلى والأمين الخمليشي وإدريس الصغير وخناتة بنونة وأحمد بوزفور ومحمد هرادي  ومحمد شكري ومحمد عز الدين التازي ومصطفى المسناوي وعبد الرحيم المؤدن ومحمد الدغمومي وغيرهم. ثم بعد ذلك تطورت القصة المغربية في اتجاهات عديدة ومتنوعة، وكثرت فيها التجارب الجمالية والتيمات والبصمات الخاصة.

لقد تطورت القصة القصيرة في المغرب نتيجة احتكاكها بالنماذج القصصية المشرقية والغربية، وارتباطها بالتراث السردي العربي والمغربي؛ فضلا عن التزامِ الكُتّاب المغاربة بقضايا الإنسان في بعده الفردي والاجتماعي، وإحساسِهم العميق بالتحولات التاريخية، وشعورهم القوي بالتبدلات الفكرية والجمالية. وهو التطور الذي تَجَسَّدَ في مظاهر متنوعة ومتعددة؛ منها التراكمُ الكمي والنوعي الذي حققته القصة المغربية من حيث تجاربها واتجاهاتها وتياراتها، والمواكبةُ النقدية التي سايرتها على الصعيدين الأكاديمي والصحفي، وإدراجُ نصوصها في مختلف أسلاك التدريس، من التعليم الابتدائي إلى التعليم الجامعي ، وتخصيصُها بمقاربات نقدية تاريخية وبيبْلْيوغرافية وديداكتيكية، فضلا عن ظهور مجلات وأندية وجمعيات مهتمة بها، وتنظيم ندوات وجوائز متعلقة بها.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الكتابة النسائية شَكَّلَت رافدا هاما للتجربة القصصية المغربية، حيث ظهرت نماذجُها الأولى أواخر الثلاثينيات وبداية الأربعينيات مع مليكة الفاسي (باحثة الحاضرة)، ثم في الخمسينيات وما بعدها مع خناتة بنونة وزينب فهمي (رفيقة الطبيعة) وفاطمة الراوي وآمنة اللوه وغيرهن. وبعد ذلك تتابعت التجارب وتلاحقت الإصدارات، فتحقق بذلك تَراكُمٌ كَمِّيٌّ ونَوْعِيٌّ جديرٌ بالمواكبة والدراسة. وسواء انفردت هذه الكتابة النسائية بخصوصيات دلالية وجمالية تميزها، أم تداخلت مع الكتابة الرجالية في إطار المُشْتَرَك الجغرافي والوطني والاجتماعي والتاريخي، فهي قد أَغْنَت المخيال الأدبي الإنساني، وساهمت - دون شك- في تطوير التجربة القصصية المغربية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

    المسرح في العصر الوسيط ا لأستاذ عبد الواحد المرابط   يقع العصر الوسيط بين العصر القديم والعصر الحديث، حيث بدأ مع سقوط الإمبراطورية...