الخميس، 30 أبريل 2020

مسرح القسوة


الأستاذ عبد الواحد المرابط
------------------------------------------

 

مسرح القسوة

أطلق أُنطونان أرطو (Antonin Artaud) (تـ 1948) على تجاربه المسرحية تسميةَ "مسرح القسوة" (Théâtre de Cruauté)، ويقصد بذلك المسرحَ الذي يُجَسِّد معاناة الإنسان من جَرّاء عُنْفِ العالَم وأَلَمِ الوجود فيه، على الصعيدين الفيزيائي والميتافيزيقي، وفي المستوين الروحي والجسدي. فالقسوة - بالنسبة إليه - ثاوية في عمق الحياة، وما المسرح إلا رحلة جماعية رهيبة نحو هذا العمق، تُعيد للإنسان صرخةَ ولادتِه وتُرجِعُه إلى صدمةِ وجودِه الأولى...

انفتح أرطو على تجارب مسرحية خارج القارة الأوروبية، فضلا عن علاقته الوطيدة بالاتجاهات الفكرية والإبداعية الغربية في القرن العشرين. فعلى الصعيد الأوروبي كان أرطو رائدا من رواد المذهب السُّريالي (Surréalisme)، بيد أنه انتقل فيما بعد من التركيز على اللّاشعور الفردي إلى استلهام اللّاشعور الجماعي، فنقل إبداعَه من دائرة الحلم (الفردي) إلى دائرة الأسطورة (الحلم الجماعي)، وشرع ينهل من الجوانب الأنثربّولوجية الثاوية في العقل الباطن ومن الأبعاد الميتافيزيقية للكائن البشري. وفي هذا الإطار استفاد من نظرية كارل يونك حول اللّاشعور الجمعي، ومن تصورات فريديريك نيتشه حول جذور التراجيديا، ومن مسرحيات ألفريد جاري ذات النزعة الميتافيزيقية؛ فتوجه بذلك كله نحو خلق ممارسة مسرحية تُحَرِّر القِوى الخبيئة في الإنسان وتفجر طاقاته الإبداعية الخلاقة.

أما خارج أوروبا فقد تشبع بالثقافة الشرقية عموما، واستفاد من المسرح الشرقي القائم على الاحتفال الطقسي المفعم بالتعابير الجسدية ذات البعد الروحي، وخصوصا منه الأشكال المسرحية في جزيرة بالي (Bali) بأندونيسيا، التي وجد فيها نزعةً روحية تميل إلى الطقوس السحرية والصوفية والوجدانية، فتربط ما هو حسي بما هو مجرد وما هو إنساني بما هو كوني. وبالإضافة إلى ذلك، تَشَبَّع أرطو بثقافة أمريكا الوسطى، وخصوصا منها ثقافة قبائل "تاراهومارا" (Tarahumara) في المكسيك، التي ظلت تحتفظ برؤية روحانية للإنسان والكون، تلتقي فيها الأسطقسات الأربعة (الماء والهواء والتراب والنار) ضمن منظور كوني واحد، وتتحد فيه الجزئيات بالكليات، بعيدا عن الثنائيات المنطقية والتقسيمات العقلانية التي طبعت الثقافة الغربية.

ومن جهة أخرى، ترك أرطو بصمات واضحة في تجارب المسرح المعاصر، على المستوى العالمي؛ إذ شكل مُنْطَلَقا لأجيال من الكُتّاب والمخرجين، منهم البلجيكي ميشال دو كيلدرود (Michel de Ghelderode) (تُـ 1962)، والبولوني جيرزي كروتوفسكي (Jerzy Grotowski) (تُـ 1999)، والإيطالييْن أوجينيو باربا (Eugenio Barba) (وُ 1936) وروميو كاستيلّوتشي (Roméo Castellucci) (وُ 1960)، والبريطاني بّيتِر بروك (Peter Brook) (تُـ 1936)، والإنجليزية سارا كان (Sarah Kane) (وُ 1971)، بالإضافة إلى تجارب "المسرح الحي" (Living Theater) و"المسرح الاحتفالي" (Cérémonial) و"مسرح الوقائع" (situationnisme) و"المسرح المفتوح" (Open Theater)...

وقد عَبَّر أرطو عن تصوره لمسرح القسوة من خلال إخراجه لمسرحيات عديدة، بالإضافة إلى كتابات نظرية ضَمَّنها مواقفَه وتصوراته وتأملاته؛ فمن مؤلفاته كتاب "مسرح القسوة" الصادر سنة 1933، وكتاب "المسرح وقرينه" الصادر سنة 1938؛ ومن أعماله الإبداعية مسرحية "آل سِنْسي" (Les Cenci) (1935) التي اقتبسها وأخرجها وشَخَّص فيها دورا رئيسيا. غير أن كتاباته النظرية لا تتجه نحو بناء نسقي للتصورات والمفاهيم، بقدر ما ترمي إلى خلق حالة من الإحساس بعمق التفكير الناتج عن عمق المعاناة؛ لذلك امتلأت تلك الكتابات بالشذرات المتفرقة والعبارات المنفصلة والصور الشعرية الغامضة. لكن هذا لا يمنع من استخلاص أبرز الأفكار والمواقف والتصورات التي ترسم المعالم الأساسية لمسرح القسوة:

رفض أرطو جميع التقاليد التي كَرَّسَتها الممارسات المسرحية قديما وحديثا، والتي جعلت العرض مجرد أشكال خاضعة للقواعد والأعراف... وفي سياق ذلك سخر من النزعات التعبيرية والتصويرية التي تقدم صورة ضيقة للإنسان، دون أن تغوص في أعماقه الغائرة، ودون أن تستجلي مكوناته اللاشعورية الفردية والجماعية؛ فهي - بالنسبة إليه - تفصل الجسد عن الفكر والمحسوس عن المجرد والإنسان عن العالم. واستخف - من جهة أخرى - بالنص الدرامي لأنه لا يقدم للمسرح إلا لغة واحدة هي لغة الكلام، بينما يحتاج العرض إلى لغات الجسد المنطوقة والمرئية والممتدة في الفضاء السينوكرافي؛ فالمسرح عرض شامل يضطلع به المخرج لا المؤلف.

بناء على هذه المواقف، أعاد مسرح القسوة الاعتبارَ إلى اللّاشعور الفردي في ارتباطه باللّاشعور الجمعي، من خلال جعل العرض المسرحي احتفالا طقسيا تتحرر فيه غرائز الفرد من جهة، وتنطلق فيه الانفعالات الجماعية من جهة أخرى؛ ومن ثمة يعثر الإنسان على ذاته، ويعود إلى آدميته، فترتفع الحياة إلى ذروتها. إن المسرح - حسب أرطو - عالَمٌ سحري تلتقي فيه الأرواح بالأجساد، فيشعر الإنسان بالقسوة التي تمارسها عليه الأشياءُ، وتستيقظ حواسُّه الأصلية وغرائزُه الدفينة وأحاسيسُه العميقة، ويصل بالتالي إلى حالة من "التطهير" الروحي والجسدي. لا يتعلق الأمر بالتطهير النفسي (Catharsis) الذي شكل غايةَ التراجيديات القديمة حسب أرسطو، ولا بمشاعر التَّعَطُّف والشفقة (Pathétique) التي سعت إليها الدراما الحديثة؛ لأن مسرح القسوة لا يعتمد آلية "المحاكاة" (Mimêsis) ولا آلية "الانعكاس" (Reflet) ولا آلية "التعبير" (Expression)، بل يرمي إلى خلق عالَم سحري قرين أو مُكَرَّر (Double) تنكشف فيه مأساوية الإنسان وقسوة الوجود.

هكذا، عاد أرطو بالمسرح إلى أصوله الطقسية البدائية، لا من حيث الأساطير والمعتقدات الدينية، وإنما من حيث مواجهة الإنسان للقوى الخارجية والداخلية اعتمادا على كيانه الروحي والجسدي، وهي المواجهة التي تُجسد قسوةَ وجودِه في هذا العالَم، فتجعله يطلق العنان لنزعاته وأحلامه وهواجسه وقِواه النائمة. وبذلك فمسرح القسوة لا يحاكي الحياة بقدر ما يعيشها من داخلها وفي عمقها، ليتبين أنها أكثر خطورة ورعبا مما تبدو عليه ظاهريا، وأنها عبارة عن حلم جماعي رهيب وقاس.

لقد سعى أرطو إلى أن يكون مسرح القسوة عرضا احتفاليا، يقوم على لغة الجسد وامتداداته الصوتية والحركية، التي تحيط بالمتفرجين وتستدرجهم إلى نشوة (Transe) صوفية تُخْرِج أرواحَهم من معاقلها وتُحَرِّر أجسادَهم من قيودها، لتزج بهم في طقس جماعي واحد يُغَيِّر أشياء كثيرة في أعماقهم، فيكون خروجهم من المسرح ليس كدخولهم إليه...

انطلاقا من هذه التصورات، سعى أرطو إلى إيجاد مسرح خالص (pur) وشامل (Total )؛ خالص لأنه يستبعد العناصر التي لا تنتمي إلى فضاء العرض المسرحي، والتي طالما ألصقتها به الممارساتُ السابقة في سعيها إلى اصطناع فرجات زائفة؛ وشامل لأنه يستثمر جميع الوسائل السينوكرافية، من تمثيل وحركة وغناء وأضواء وديكورات وأزياء ودمى وسيرك وسينما ورقص، ليجعل الجمهور في قلب العرض المسرحي لا خارجه.

وعليه، فقد أعطى أرطو الأولوية للإخراج على حساب النص المكتوب الذي كان يتلافاه في تركيب العرض، فإذا اضطر للتعامل معه أعاد توجيهَه نحو معان جديدة ومختلفة. إن لغة النص هي لغة الكلام، أي لغة الأفكار الذي نعبر بها عن أشياء نعرفها، أما لغة العرض فهي لغة العلامات الميتافيزيقية التي تُعَبِّر عَمّا لم نَعَتَدِ التعبيرَ عنه، وهي بذلك مستقلة عن الكلام. فـ"الأفكار الواضحة، في المسرح كما في غيره، أفكار ميتة ومُنتهية". إذن، فالإخراج هو نقطة انطلاق الإبداع المسرحي، والمخرج هو ذلك الساحر المسؤول عن إقامة الطقس المسرحي بكل مكوناته، وجَعْلِ العرض حلما جماعيا شاملا يغوص في أعماق الإنسان.

ثم بعد ذلك يأتي دور الممثل الذي يزرع الحياة في ذلك الطقس بما لديه من قدرات صوتية وأدائية عالية. فقد أعاد أرطو للممثل هويتَه الجسدية والروحية ليغدو كائنا احتفاليا مشاركا في طقس جماعي، وليس مجرد دمية تستظهر حوارات النص وترددها أمام الجمهور. فالممثل محور مسرح القسوة، لأنه يزرع الحياة في العرض المسرحي ويعطيه امتدادا ماديا تجسده الحركة والصوت والرقص والصراخ...

وتأتي العناصر السينوكرافية الأخرى لتساهم بقوة في هذا الطقس المسرحي؛ فالإنارة متقلبة تُحدِث الدهشة وتخلق أجواء المفاجأة والخوف والحزن والفرح والغضب والرعب؛ والموسيقى تُساير العوالم السحرية للأحداث بنوطات فجائية تحرك أحاسيس الجمهور العميقة؛ والأزياء تضفي على العرض طابع الغرابة والعَجَب؛ والأكسسوارات تقوم مقام الديكور، فضلا عن وظائفها الأداتية والسحرية....

أما موضوعات مسرح القسوة فقد كانت صادمة وحادة، تخرق العادة الاجتماعية المألوفة لِتَكْتَنِه الأعماق الخفية وتُجَسِّد الصراعات الميتافيزيقية الحتمية التي تعصف بالإنسان. منها طيمات الجريمة والتمرد والغرائز والاعتداء وارتكاب المحارم وقتل الأب، وغير ذلك مما يقبع في اللّاوعي من قلق وحيرة... ويمكن أن نقترب من هذه المواضيع بإشارات مختصرة لمسرحية "عائلة سينْسي" (Les Cenci)، التي قدمها أرطو في باريس سنة 1935، والتي تُعتبر من أعماله النموذجية.

تعتمد مسرحية "عائلة سينْسي"، من حيث مادتها الحكائية، أحداثا واقعية مؤلمة عاشتها عائلة إيطالية في روما سنة 1599. يتعلق الأمر بعائلة سينتْشي (Les Cinci) المكونة من الأب فرانشيسكو (Francesco) وزوجته الثانية لوكريسيا (Lucrezia) وابنه منها بيرناردو (Bernardo)، بالإضافة إلى ابنيه من زوجة سابقة هما الشابة الجميلة بْياتريشيا (Beatrice) وأخوها الأكبر جياكومو (Giacomo). فقد كان هذا الأب أرستقراطيا يحمل لقب النَّبالة، لكنه كان منحرفا ومارقا وعدوانيا متسلطا، يحتمي بِلَقَبه الاجتماعي وبسكوت الكنيسة عن جرائمه. كان يمعن في تعذيب زوجته وأبنائه ويتحكم في حياتهم؛ من ذلك أنه تسبب في مقتل ابنيه الأكبرين (شقيقَي بْياتريشيا وجياكومو) بإرسالهما إلى إسبانيا في رحلة يعلم خطورتها... وقد دفعته غرائزه المريضة إلى اغتصاب ابنته الجميلة بْياتريشيا، ذات السبعة عشر ربيعا، فصار يضاجعها كل ليلة؛ ولما حاولت فضحه قرر إرسال العائلة كلها لتعيش في قصر آخر يمتلكه بعيدا عن روما... وقد انتهى الأمر بأن اكتشف أفرادُ العائلة جريمته المخزية، فاتفقوا على قتله، واستعانوا في ذلك بخادمين من خدام القصر دَقّا مسمارا في رأسه... وحين لوحظ غياب السيد سينسي بدأ التحقيق وتدخلت الكنيسة في الاستنطاقات، فاقتيد أفرادُ العائلة إلى المحكمة الباباوية، واستولى الأب كليمونت الثامن (Clément VIII) على أملاكهم وحكم بإعدامهم في المقصلة، باستثناء الأخ الأصغر بيرناردو الذي ظل في السجن إلى أن مات كمدا...

انتشرت أخبار هذه العائلة في إيطاليا وفي بلدان أورُبا، فصارت الشابة بْياتريشيا رمزا للحرية والتمرد على السلطة العائلية والاجتماعية والدينية، ومرجعا حكائيا لكل أشكال القهر والاستغلال والظلم؛ فشكلت قصتُها - منذ ذلك الحين - مصدرَ إلهام لأعمال فنية كثيرة، في الأوبرا والقصة والرواية والمسرح ثم السينما حديثا، فضلا عن فنون النحت والتشكيل. من ذلك لوحة "بياتريشيا سينتْشي" (1599) للرسام الإيطالي جوديو ريني، وقصة "عائلة سينتْشي" (1817) للكاتب الفرنسي ستاندال، ومسرحية "عائلة سينتْشي" (1819) للشاعر البريطاني بّيرْسي شيلّي، وقصة "عائلة سينتْشي" (1839) للكاتب الفرنسي ألِكساندر دوما الأب، ورواية " بياتريشيا سينتْشي" (1854) للكاتب الإيطالي فرانسيسكو كيرازي، ورواية "بياتريشيا سينتْشي" (1957) للكاتب الأمريكي فريديريك بروكوتش، والمسرحية الشعرية "11 شتنبر 1599؛ إلى بياترشيا سينتشي" (2020) للكاتبة الإيطالية سابرينا كاتي...

وقد اعتمد أرطو على مسرحية شيلّي في اقتباس الحكاية، لكنه وَجَّهَها وجهة عنيفة تستخرج قيح الوجود، لتُبرز ما فيه من رعب ووحشية: فالموضوعات تتصل بمآسي الإنسان وأعماقه الغائرة، إذ تجسد "الجريمة" و"ارتكاب المحرم" (inceste) و"قتل الأب" (parricide)، فتبلورها داخل فضاء دلالي مليء بالقسوة والعنف والألم والشر. أما الشخصيات فهي تتجرع قساوة الحياة ومرارة الوجود، ضمن رؤية مأساوية قاسية؛ فشخصية بياتريشيا بطلة تراجيدية بالمعنى العميق للكلمة، جعلها شرطُها الوجودي ضحية ومجرمة في نفس الوقت؛ والأب سينتشي يجسد صورة الإله الظالم الذي يتحكم في البشر، فيدفعهم حتميا ولاشعوريا إلى التمرد والقتل؛ والبابا يجسد سلطة الأعراف والقوانين الدينية الجائرة التي تكبل ضحاياها وتسلبهم أرواحهم وأجسادهم وممتلكاتهم؛ والشخصيات الأخرى ضائعة وضعيفة تخضع لقوى قدرية وحتمية...

ولكي يتحول كل هذا إلى طقس رهيب، حَرَّك أرطو تقنيات العرض المسرحي؛ حيث جعل الموسيقى جنائزية مصحوبة بأصوات الرعد والعواصف، تتخللها موجات صوتية عنيفة تحمل أنفاسا لاهثة أو صراخا متقطعا أو عويلا أو ألما؛ وحَوَّلَ الإنارة إلى إشارات ضوئية خاطفة ومتقلبة تثير الخوف وتحرك الهواجس؛ وجعل الممثلين أجسادا طوطمية تزرع الروح في عالم غرائبي يتدفق على وجدان المتفرجين...

ورغم ذلك كله، لم يلق العرض المسرحي ذلك النجاح الباهر الذي كان أرطو يتوقعه، فلم يُقَدَّم إلى الجمهور إلا سبع عشرة مرة؛ ربما لأن الوسائل التقنية في ذلك الزمن لم تكن كافية لتجسيد التصورات الجمالية لمسرح القسوة؛ وربما لأن الجمهور، الخاضع للتقاليد المسرحية الشائعة، لم يكن يمتلك شجاعة التفاعل مع ما يُقَدَم له من رعب وقسوة؛ وربما لأن أرطو كان يعيش في عصر غير عصره ويُبْدِع في زمن غير زمنه... وعلى كل حال، فقد انتهى به المطاف في مصحات الأمراض النفسية إلى أن مات سنة 1948. أما تجربته المسرحية الفريدة فستصبح مرجعية جمالية أساسية على المستوى العالمي، وستساهم في رسم الطريق للمسارح التجريبية خلال النصف الثاني من القرن العشرين وما بعده...


مسرح العبث


الأستاذ عبد الواحد المرابط
------------------------------------------

 

مسرح العبث

الإنسان ضائع في العالَم، وتائه في وجودٍ عبثي لا جدوى منه؛ وبالتالي فهو غير قادر على فعل أي شيء سوى ما تفرضه عليه العادات الاجتماعية، وغير قادر على التعبير لأن المعنى مفقود والدلالة ضائعة، وليس له من يقين غير يقين الموت... هذه بعض الأفكار الأساس التي انبنت عليها الرؤية العبثية في المسرح المعاصر. لكن، أليس في تعبيرِ أصحاب هذه الرؤية عن "لا معنى" الوجود صياغةٌ خاصة بهم لمعنى هذا الوجود ذاته؟ وحين نقول إن العالَم لا معنى له، ألا نكون بذلك قد خَصَّصْناه بإحدى الدلالات وربطناه بأحد المعاني؟

يتبين معنى هذا "اللّامعنى" حين نستحضر السياق التاريخي لظهور مسرح العبث (Théâtre de l’absurde)؛ أي سياق منتصف القرن العشرين، بعد حربين عالميتين خلفتا دمارا وخرابا على جميع الأصعدة والمستويات، فاتضحت المآلات الوخيمة التي انتهت إليها الثورة الصناعية، وانهارت القيم التي انبنت عليها النزعة الإنسانية (Humanisme)، وفقد المثقفون ثقتهم في شعارات التقدم والتطور والازدهار...

يُرجِع بعضُ الباحثين الأصولَ الفكرية لمسرح العبث إلى مجموعة من الكتابات السابقة، التي تضمنت أحداثا غير معقولة أو شخصيات عابثة؛ منها كتابات ألفريد جاري[1] وجان بول سارتر[2] وألبير كامو[3] وأنطونان أرطو[4]، وأعمال الدادائيين[5] والسُّرياليين[6]. غير أن لهذا المسرح مرجعيةً ثقافية وأرضيةً فكرية وخاصيات فنيةً ميزته برؤية وأسلوب خاصين في الكتابة، تَجَسَّدا في أعمال أرتور أداموف[7] وفيرجيليو بّينيرا[8] وجان جوني[9] وصامويل بيكيت[10] وأوكين يونيسكو[11] وهارولد بّينْتير[12] وغيرهم... ورغم أن كل واحد من هؤلاء الرواد تميز بنزعته الفردية وطابعه الشخصي، فقد كان يجمع بينهم رفضُهم لتقاليد الدراما الغربية، من حيث بنيتها المنسجمة وحبكتُها المترابطة وأحداثها المتسلسلة والمتطورة وحواراتها التواصلية وشخصياتها ذات العمق السيكولوجي والاجتماعي.

لقد كان مسرح العبث أكثر جرأة من المسرح الملحمي في الثورة على تقاليد المسرح الدرامي ومواضعاته، إذ فَكَّك الحبكةَ أو غَيَّبها تماما، وقطع خطيةَ الأحداث أو كسر تطورها، وأفرغ الشخصيات من محتوياتها النفسية ومضامينِها الاجتماعية، ومحا معالم الزمن وسمات المكان، وفكك نظام اللغة والعلامات الركحية؛ فكان بذلك أكثر حسما في انحسار عهد الدراما وبداية عهد مسرحي جديد يُسمى "مسرح ما بعد الدراما" (Théâtre post-dramatique).

إن القضية الأساس التي عالجها مسرح العبث هي قضية الشرط الإنساني المضطرب، الذي أفقد الناسَ إحساسهم بالانسجام والأمان، وقتل لديهم الأملَ في المستقبل، ورَسَّخ لديهم شعورا بهشاشة الإنسان وعبثية الحياة ولا جدوى الوجود. وقد تجلت هذه القضية في طيمات وموضوعات صادمة من قبيل الموت والانتحار واليأس والقُنوط والوحدة والملل والضياع، وغير ذلك مما يعيشه الإنسان في حياته اليومية المتكررة التي تبعث على الغثيان. وقد لامس كُتّاب مسرح العبث هذه الموضوعات من خلال تغييب الحبكة المسرحية أو تكسير منطقها الدرامي، ومن خلال تحطيم التطور السردي للأحداث أو جعلها تتكرر بشكل سَرْمَدي. وأدى بهم ذلك إلى إلغاء الزمن أو جعله دائريا يعيد نفسه إلى ما لا نهاية، وإلى تجريد المكان من هويته الجغرافية أو الاجتماعية أو التاريخية. أما الشخصيات المسرحية فقد صارت تجسد كائنات تائهة تخبط خبط عشواء، دون هوية واضحة تعطيها عمقا سيكولوجيا، ودون حالة مدنية تحددها اجتماعيا. وأما لغة الحوارات فقد اتجهت نحو تحطيم الدلالة وهدم المعنى المشترك، من خلال كلمات شاردة وخشنة وجمل مُفَكَّكَة وأساليب بارودية فجة؛ مما يؤكد استحالةَ التواصل في زمن الضياع. وقد انعكست هذه الخصائص على مستوى الإخراج والتمثيل والعناصر السينوغرافية، حيث قد يدل الديكور على اللّامكان ويكسر اتجاه الزمن، وقد لا تخضع الأحداث لتقسيم مشهدي يبرز خطيتها.

يمكن أن نقترب من الموضوعات والشخصيات التي انشغل بها مسرح العبث، من خلال إشارات موجزة إلى مسرحية "الكراسي" لأوكين يونيسكو (Les Chaises)، ومسرحية "في انتظار كودو" (En attendant Godot ) لصامويل بيكيت:

- كتب يونيسكو مسرحية "الكراسي" سنة 1951 ونشرها سنة 1954، بعد أن كان عرضُها الأول في باريس سنة 1952. وهي تعرض حالةَ رجل مُفَكِّر يبلغ من العمر 95 سنة، يعيش مع زوجته العجوز (94 سنة) في منزل منعزل تحيط به مياه عميقة الغور، حيث يكرران يوميا نفس الكلام والحكايات والحركات... ولكي يخرجا من الرتابة والملل، استدعى الرجل كبارَ شخصيات العالم ليبلغهم رسالة في غاية الأهمية، تتضمن خلاصة حياته وتجربته، وتُرْشِد البشرية إلى ما يُخْرِجُها من بؤسِها وشقائها... ولما حان الموعد بدأت الشخصيات المهمة تتوافد تباعا على المنزل؛ فكلما طُرِق البابُ هَبَّ الزوجان إلى استقبال الضيف والترحيب به ودعوته إلى الجلوس على كرسي في انتظار باقي المدعوين. ولما اكتمل الجمع واستعد الضيوف لسماع الخطاب التاريخي، أخبرهم الرجل المسن بأنه لا يستطيع إلقاء خطاب بليغ يليق بجلالة الموضوع وبالمقام العالي للحاضرين، وأنه لذلك قد كَلَّف خطيبا محترفا يتكفل بهذا الأمر؛ ثم وَدَّعهم وألقى بنفسه من النافذة منتحرا، فالتحقت به زوجته... بقي الجمهور وجها لوجه أمام الخطيب، فكانت الصدمة...

اتضح أن الجمهور قد خُدِعَ مرتين: خُدِع في البداية لَمّا سايَر الزوجين في استقبالهما شخصيات وهمية ليس لها وجود فعلي، فالكراسي فارغة لا تدل إلا على الغياب؛ وخُدِع في النهاية لَمّا تَبَيَّن أن الخطيب أصمُّ أبكمُ، لا تصدر عنه إلى أصوات مبعثرة وكلمات مفككة خالية من المعنى.

- كتب بيكيت مسرحية "في انتظار كودو" سنة 1948 ونشرها سنة 1952، ثم كان عرضُها الأول في باريس سنة 1953. وهي تقدم وقائعَ لقاء يومي بين رجلين متشردين، فلاديمير (Vladimir) وإسْتْراكون (Estragon)، التقيا على قارعة الطريق قرب شجرة لا أوراق فيها، وطَفِقا يُزَجِّيان الوقت بحوارات غير متناسقة وأفكار غير متبادلة حول الحياة والوجود والشقاء، في انتظار شخص ثالث اسمه كودو (Godot). وأثناء ذلك مَرَّ بهما رجل متجبر يُعَنِّف خادمَه ويُهينه، ثم جاء طفل ليخبرهم بأن كودو لن يأتي اليوم وأنه سيأتي غدا. تَذَكَّرا أنهما ربما عاشا هذا المشهد من قبل، فانسحبا بعد أن ضربا موعدا جديدا.

وفي الغد، حضر فلاديمير وإستراكون إلى المكان نفسه، حيث تغيرت هيئة الشجرة وانبثقت منها الأوراق، فعاشا حالة الانتظار نفسها، ومر بهما المتسلط وخادمه فتبينا أن الأول أعمى والثاني أخرس، ثم انتهى الأمر بمجيئ الفل الذي أخبرهما مرة أخرى بأن كودو لن يأتي اليوم وأنه قد يأتي غدا. وعلى إثر ذلك عزما على الانتحار، فعلق إستراكون حزام سرواله على أحد فروع الشجرة لكنه تمزق. اتفقا أخيرا على مغادرة المكان ليلتقيا غدا ومعهما حبل متين، فينتظرا كودو من جديد.



[1]- ألفريد جاري (Alfred Jarry)، شاعر وروائي وكاتب مسرحي فرنسي، مات سنة 1907.
[2]- جان بول سارتر (Jean-Paul Charles Aymard Sartre)، كاتب وفيلسوف فرنسي، مات سنة 1980.
[3]- ألبير كامو (Albert Camus)، كاتب وفيلسوف فرنسي، مات سنة 1960.
[4]- أنطونان أرطو (Antonin Artaud)، شاعر وكاتب ومسرحي فلانسي، مات سنة 1948.
[5]- الدادائية (dadaïsme) حركة أدبية وفنية فنية ظهرت في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين، ترفض جميع التقاليد والقيم الجمالية والإيديولوجية والسياسية، وتفتح الباب لحرية التعبير عن خراب العالم وعبثية الوجود. من أعلام هذه الحركة الأديب الألماني هيكو بال (Hugo Ball) (ت 1927) الذي نشر "البيان الأدبي" سنة 1915، والأديب السويسري (الروماني الأصل) تريستان تزارا (Tristan Tzara) (تـ 1963) الذي نشر "بيان الدادائية" سنة 1918.
[6]- السُّريالية (Surréalisme ) حركة أدبية وفنية تفرعت عن الدادائية، وانتشرت في أوروبا خلال النصف الأول من القرن العشرين، تنطلق في الإبداع من القوى النفسية المتحررة من قيود العقل والنظام الاجتماعي، وتعتمد آليات الحلم والرغبة الداخلية. من أعلامها أندري بروطون (André Breton) (تـ 1966)، الذي نشر "بيان السريالية" سنة 1924، وروبير دينوس (Robert Desnos) (تـ 1945) وبّول إلْوار (Paul Éluard) (تـ 1952) ولويس أراكون (Louis Aragon) (تـ 1982) وفيليب سوبّو (Philippe Soupault) (تـ 1991)...
[7]- أرتور أداموف (Arthur Adamov)، كاتب ومترجم ومسرحي فرنسي من أصول روسية- أرمينية، مات سنة 1970.
[8]- فيرجيليو بّينيرا لييرا (Virgilio Piñera)، شاعر وكاتب ومسرحي كوبي، مات سنة 1979.
[9]- جان جوني (Jean Genet)، شاعر وكاتب ومسرحي فرنسي، مات سنة 1986.
[10]- صامويل بيكيت (Samuel Beckett)، شاعر وكاتب ومسرحي إيرلندي، كان يكتب باللغتين الفرنسية والإنكليزية، فائز بجائزة نوبل في الآداب 1968، مات سنة 1989.
[11]- أوكين يونيسكو (Eugène Ionesco)، كاتب مسرحي فرنسي من أصل روماني، مات سنة 1994.
[12]- هارولد بّينتِر (Harold Pinter)، كاتب ومخرج مسرحي بريطاني، حائز لجائزة نوبل في الآداب 2005، مات سنة 2008.

المسرح الملحمي


الأستاذ عبد الواحد المرابط
------------------------------------------

 

المسرح الملحمي


تبلور المسرح الملحمي (théâtre épique) (episches Theater) في ألمانيا خلال النصف الأول من القرن العشرين، انطلاقا من تصورات وتجارب الروسي فلاديمير ماياكوفسكي[1] والألمانيَّيْن فْزيفولود مايّيرهولد[2] وإِروين بّيسْكاتور[3]. فقد سعى الأول إلى تأسيس مسرح سياسي يعتمد البعدَ التاريخي والاجتماعي، ووضع تجربته في خدمة الثورة البولشِفية، بعد أن كان في شبابه منتميا إلى الاتجاه المستقبلي (Futuriste)؛ وسعى الثاني إلى مناهضة تقاليد الدراما الطبيعية، وإرساء مسرح سياسي يقوم على التشخيص كآلية جسدية حية، وتمرير "فكرة أساسية" (pensée fondamentale) حول التاريخ والمجتمع؛ أما الثالث فقد سعى إلى تأسيس مسرح سياسي بروليتاري يُرَوِّج فكرةَ الصراع الطبقي، ويساهم في الثورة الاشتراكية، ويوظف في ذلك تقنيات الصورة والسينما والأشرطة الوثائقية والمنصات الدائرية المتحركة.

وقد وصل هذا المسرح الملحمي إلى صياغته الكاملة مع بِرْتولد بريشت[4]، الذي استجمع تلك التجارب وبلورها في صياغة نظرية وممارسات ركحية ذات أبعاد جدلية وسياسية وتعليمية؛ فجعل من المسرح الملحمي أحد المنعطفات الفكرية والجمالية الكبرى التي نقلت الممارسة المسرحية من عهد الدراما إلى عهد ما بعد الدراما... يتعلق الأمر بأسلوب مسرحي جديد مناهض لتقاليد المسرح الكلاسي الأرستقراطي والمسرح الدرامي البورجوازي على السواء: فقد رفض - من جهة أولى - مبدأ "الاحتمال" (Vraisemblance) وما ترتب عنه من قواعد وحدة الحدث والزمان والمكان، ومن تمييز نوعي بين التراجيديا وكوميديا؛ ورفض - من جهة أخرى - أشكال بناء الدراما الحديثة وما ترتب عنها من تسلسل في الأحداث ومن إيهام مسرحي.

انطلق المسرح الملحمي من موقف أولي وأساسي، هو رفض المحاكاة (Mimésis) بكل مظاهرها وتجلياتها وبكل تقنياتها ووسائلها؛ وبناء على هذا الموقف أسس جماليتَه الخاصة ليتجه بالممارسة المسرحية وجهة سياسية ذات منحى تحليلي وتعليمي، دون أن يفرط في الجوانب الفنية والفرجوية.

اعتمد تقنية السرد في توجيه الحدث المسرحي، حيث كَسَّر تناميه الخطي، وقطَّعه إلى مشاهد منفصلة تتخللها تعليقات سردية أو تحليلية أو غنائية تُبرز التقابلات والتناقضات، وتسمح للمتفرج بأن يكون أمام العرض لا داخله، وأن يقف بالتالي على مسافة واعية تُجَنِّبُه الانغماس العاطفي وتُبْعِده عن الإيهام المسرحي، ومن ثمة تدفعه إلى التحليل والتفكير والمساهمة في مناقشة القضية التي تعرضها المسرحية. وهكذا فالمسرح الملحمي قد استبدل السردَ بالحدث والرؤيةَ بالوقائع والتركيبَ (المونطاج) بالتطور والتفكيرَ بالعاطفة...

تَرَتَّب عن اعتماد السرد في توجيه الحدث أسلوبٌ مسرحي متفرد يقوم على "خلق المسافة" (Distanciation) (Verfremdungseffekt )؛ وهي تعني إحداثَ نوع من التباعد بين الممثل والدور الذي يشخصه من جهة، وبين الجمهور والعرض المسرحي الذي يشاهده من جهة أخرى. فالممثل الملحمي لا يتقمص الشخصيات بل يشخص الأدوارَ ويحتفظ بحقه في الانفصال عنها وتحليلها ومناقشتها والتعليق عليها، مع تذكير الجمهور بأن الأمر يتعلق بأحداث تخيلية يتم تقديمها في لعبة مسرحية تخاطب العقل وتستدعي النقاش. ويترتب على ذلك تكسير "الجدار الرابع" (Quatrième mur)، أي ذلك الجدار الوهمي الفاصل بين الممثلين والجمهور والذي رسخته الممارسة المسرحية الغربية عبر تاريخها الممتد قديما وحديثا، في سعيها إلى خلق الاحتمال والإيهام المسرحي، اللذين يَزُجّان بعواطف المتفرج في عوالم الحدث التخييلي، ويَشُلّان قدرته على التحليل والتفكير والنقد.

إن هذه المسافة، التي تحول دون تقمص الممثل للشخصيات ودون اندماج المتفرج في الأحداث، تُخْرِج تلك الشخصيات وتلك الأحداث من دائرة العادي والمألوف وتجعلها متسمة بنوع بالغرابة؛ مما يسمح بتأملها في سياق جديد يثير الدهشة والفضول بقدر ما يثير الانتباه والتفكير. وذلك لأن الأشياء التي تبدو عادية لا نفكر فيها، فإذا نُزِعَت عنها مظاهرُها المألوفة أو "البديهية"، وتَمَّ تقديمُها في سياقات جديدة، تَبَيَّنَت غرابتُها واستدعت من الجمهور إعادة تفكير وتأمل. فالمسرح الملحمي يفترض أن جمهوره يعيش أوضاعا اجتماعية غير عادية وغير عادلة، لكن هذا الجمهور لا ينتبه إلى ذلك بحكم العادة، كما لو كانت معاناتُه طبيعية أو بديهية؛ لذلك يعرض المسرح تلك الأوضاع وفق تركيب مخالف لما هي عليه في الواقع، وبمنظور تاريخي يبرز اختلالاتها، مما يدفع المتفرج إلى إعادة النظر في نفسه وفي مجتمعه وفي لحظته التاريخية. وهكذا فـ"المسافة" من أهم خاصيات المسرح الملحمي، لأنها تؤدي إلى تغريب الشخصيات والأحداث، وتجعل الممثلين والجمهور يربطون علاقة جديدة بها تَقْدَح زِناد التفكير وتبعث على التأمل.

بناء على ذلك، فالمسرح الملحمي قد اتجه وجهة سياسية ثورية في سياق الممارسة الاجتماعية؛ فهو لم يسعَ إلى تصوير المجتمع وفق آلية المحاكاة الأرسطية أو آليات الانعكاس الدرامية، بل دعا جمهورَه إلى أن يرى كيف يمكن تغيير المجتمع والاتجاه به نحو العدالة الاجتماعية، مستعينا في ذلك بـ"السَّوْق التاريخي" (historicisation) الذي يربط الحدث المسرحي بسياق تاريخي يضيئه وبنظام اجتماعي يفسره. وهكذا فالمتفرج لا يأتي إلى المسرح لكي يشاهد المجتمع وإنما لكي يفكر فيه ويحلله وفق رؤية تاريخية واسعة، فتتولد عنده الرغبة في الثورة والتغيير.

وفي إطار هذه الرؤية الفكرية والجمالية، سعى المسرح الملحمي إلى أن يجعل العناصر السينوكرافية شفافة وفعالة في تحقيق فرجة واعية، لذلك ركز على دور الراوي في تنظيم المشاهد والأحداث، ودور الممثل في كسر الجدار الرابع وإشراك الجمهور، ودور الديكور في كسر الإيهام المسرحي، ودور الإضاءة الكاشفة في إضفاء الشفافية على المواقف والقضايا، ودور التقنيات الصوتية والبصرية في إيقاف الحدث والتعليق عليه، ودور التقسيمات الرُّكحية في فصل المشاهد عن بعضها البعض وإبعادها عن التسلسل والترابط التقليديين، بالإضافة إلى ما تضطلع به العناصر الأخرى من وظائف في هذا الإطار...

لإبراز جانب من مواضيع المسرح الملحمي وقضاياه، نقدم إشارات سريعة إلى مسرحية "دائرة الطباشير القوقازية" (Le Cercle de craie caucasien) (Der kaukasische Kreidekreis)، التي كتبها بيرتولد بريشت سنة 1945 وقدمها للمسرح سنة 1948 ونشرها سنة 1949:

بداية المسرحية ونهايتها تقعان في إحدى المزارع الاشتراكية (الكُلْخوزات) في منطقة القوقاز أواسط القرن العشرين، حيث يدور الصراع بين مالِكي الأرض الأصليين من جهة والمزارعين الذين يحرثون الأرض ويهتمون بها من جهة أخرى. غير أن هذا الصراع سرعان ما يأخذ أبعادا عامة من خلال "السَّوْق التاريخي" لوقائع تاريخية تسمح بفهمه ضمن سياق أوسع. فقد اضطلع الراوي أرْكادي (Arcadi) بسرد أحداث صراع حول أحقية الأمومة، وقع بين امرأتين في جورجيا قديما، ودعا سكان المزرعة إلى تشخيص الأدوار ومواكبة الوقائع بالتعليقات والتفسيرات والغناء، ومن ثم انبنت المسرحية على تقنية التمثيل داخل التمثيل.

الوقائع والأحداث التي يتم حكيُها وتشخيصُها تتعلق بانقلاب وقع في إقليم نوخا (Nukha) بجورجيا، حيث قُتِل الحاكم ، وفَرَّت زوجته ناتيلّا (Natella)، بعد أن تخلت عن ابنها الصغير ميشيل (Michel) عند خادمتها كروشا (Groucha). وبما أن الثوار بدأوا يبحثون عن هذا الطفل ليقطعوا دابر العائلة الحاكمة، فقد أخفته كروشا وقطعت به جبال القوقاز، فعانت جراء ذلك الكثيرَ من المصاعب والأخطار، حيث كان عليها أن تتخلى عن خطيبها، وأن تجد الحليب للطفل، وأن تفلت من الثوار الذين يتعقبونها... وبعد سنوات، فشلت الثورة وعادت ناتيلّا إلى قصرها، ثم طالبت بابنها ميشيل؛ غير أن كروشا تشبثت به، فعُرِضَت القضية على القاضي أزداك (Azdak)، الذي قرر أن يرسم دائرة بالطباشير ويضع الطفل داخلها ثم يطلب منهما أن تجذباه كل واحدة من جهتها، فمن استطاعت أن تسحبه نحوها حصلت على الحق في الأمومة... وقد تَبَيَّن في الأخير أن تلك المنافسة لم تكن إلا حيلة وضعها أزداك ليصل (بمعية الجمهور) إلى أن الأحق بالأمومة هي كروشا، لأنها رفضت أن تجر الطفل بعنف حتى لا يُلْحَق به الضرر.

وهكذا يتم بسط حكاية تاريخية، من خلال التمثيل داخل التمثيل، لجعل الجمهور يعيد النظر في قيم الروابط الدموية والشرعية، وفي معايير المِلْكية والقوانين التي تحميها، وفي التقاليد الاجتماعية التي لا تخضع للحب والعدل. وقد اعتمدت هذه المسرحية تقنية "خلق المسافة" في عدة مستويات، فاستدعت الجمهور إلى المشاركة في تقييم الأوضاع الدرامية بحس تاريخي ونقدي؛ فهناك سَوْقٌ تاريخي يواجه أحداث الحاضر بأحداث الماضي فيثير الذاكرة الجماعية، وهناك تمثيل داخل التمثيل، وهناك سارد يتوجه إلى الجمهور فيجعله دائما على مسافة نقدية من الأحداث، وهناك ممثلون يتناوبون على تشخيص الأدوار دون تقمصها أو الانغماس فيها، فضلا عن تقطيع الحكاية في مشاهد منفصلة والغناء الجماعي الذي يعيد الجمهور إلى الحكاية الأصل ويحثه على التحليل والربط والتفكر.




[1]- فلاديمير ماياكوفسكي (Vladimir Vladimirovitch Maïakovski)، شاعر وكاتب مسرحي سوفياتي، مات سنة 1930.
[2]- فْزيفولود مايّيرهولد (Vsevolod Meyerhold)، كاتب ومخرج مسرحي روسي، مات سنة 1940.
[3]- إروين بّيسكاتور (Erwin Piscator)، مخرج مسرحي ألماني، مات سنة 1966.
[4]- بِرْتولد بريشت (Bertolt Brecht)، شاعر وكاتب مسرحي ومخرج مسرحي ألماني، مات سنة 1956.

المسرح الرومانسي


الأستاذ عبد الواحد المرابط
------------------------------------------

المسرح الرومانسي

ظهر المسرح الرومانسي في أواخر القرن الثامن عشر وامتد إلى أواخر القرن التاسع عشر، متأثرا بالرومانسيين الألمان، ومن كتابات شكسبير والدراما البورجوازية، غير أنه بلور تصوراته الجمالية بشكل مستقل عنها.

كانت نقطة انطلاق المسرح الرومانسي هي رفض القواعد الكلاسية التقليدية في معظمها، وإبدالها بقوانين الطبيعة؛ فقد تم التشكيك في أهمية وحدة الحدث ووحدة المكان ووحدة الزمن، وفي مبدأ "الاحتمال" ومبدأ "اللياقة"، كما تم التشكيك في ضرورة اللغة الشعرية الإسكندرية التي كانت الحوارات المسرحية تقوم عليها.

إن المسرح عند الرومانسيين يقدم منظورا كليا للعالم، يعيد صياغة (transfiguration) العالم بشكل يبرز خصائصه وألوانه. فهو لا يسعى إلى تجميله، بل إلى معرفته والتعبير عنه. وفي سياق ذلك يركز على تعقيدات الإنسان وتناقضاته، وهذا ما حدا به إلى ضروب من المزج والجمع؛ منها الجمع بين التراجيديا والكوميديا ضمن نوع درامي واحد ومنسجم، والجمع بين الأسلوب العاطفي (pathétique) والأسلوب الهزلي (burlesque)، والجمع بين السامي (Sublime) والوضيع (Grotesque)، والجمع بين النثر والشعر. فالمسرح بالنسبة للرومانسيين مرآة تنعكس فيها الطبيعة بكل مظاهرها وأبعادها، لذلك أحدثوا قطيعة بين عالم العقل وعالم العاطفة، ودعوا إلى حرية التعبير.

اتخذ المسرح الرومانسي التاريخَ مادة أولية يستقي منها أحداثه وشخصياته، وبذلك استبدله بالأساطير والملاحم التي كان المسرح التقليدي ينهل منها. وقد سمح له هذا الاستناد التاريخي بالتعبير عن الخصوصيات المحلية للشرط الإنساني، وإعادة إنتاج الماضي، وإبرازِ العلائق بين الماضي والحاضر، واستشرافِ المستقبل.

رفض الرومانسيون شخصيات المسرح الكلاسيكي النمطية، حيث يكون الأبطال من النبلاء؛ فقد أَحَلَّ نُبْلَ الروح مَحَلَّ نُبْلِ الدَّم، فبلور أبطالا ذوي حساسية مفرطة تعبر عن "ألم القرن"، حتى وإن كانوا مهمشين في المجتمع. فالبطل الرومانسي يعبر عن العاطفة الجماعية من خلال تجربته الفردية الخاصة والمعقدة، ومن خلال روحه العذبة والتواقة إلى الحرية. أما الحبكة فهي تتمركز حول عواطف البطل الرئيسي، الذي يتطور بتطور الحبكة والأحداث، تقوده في ذلك رغباته، لتنتهي به إلى نهاية حتمية تدل على تضحيته والتزامه الأخلاقي. لقد سعى المسرح الرومانسي إلى تحريك حساسية المتفرج، من خلال مواضيع شعبية، للوصول إلى غاية اجتماعية وأخلاقية، وإلى إبلاغ رسائله الأخلاقية والفلسفية.

وقد تجسد هذا المسرح في أعمال الألمان جوهان كوته (Goethe) (تـ 1832) وكوتلوب ليسينك (Lessing) (تـ 1781) وجوهان هيردير (Herder) (تـ 1803) وفريديريش شيلير (Schiller) (تـ 1805)، والفرنسيين فيكتور هيكو (Hugo) (تـ 1885) وتيوفيل كوتيي (Gautier) (تـ 1872) وألفريد دو موسي (de Musset) (تـ 1857) وألفريد دو فينيي (Vigny) (تـ 1863) وإدمون روسْتوند (Rostand) (تـ 1918)، والإنكليزييْن جورج بيرون (Byron) (تـ 1824) وجورج ليلو (Lillo) (تـ 1739)، والسكوتلاندي والْتر سكوت (Scott) (تـ 1832)، والإيرلندي ريشارد سْتيل (Steele ) (تـ 1729) والإسبان أنخيل دي سافيدرا (de Saavedra) (تـ 1865) وكارسيا كيتييريز (Gutiérrez) (تـ 1884) وخوصي زاريلّا (Zorrilla ) (تـ 1893)...

وقد شكلت الدراما الرومانسية (Drame romantique) في فرنسا أبرز تجارب المسرح الرومانسي، وهي تجربة دعا إليها فيكتور هيكو في مسرحياته وكتاباته النظرية. ففي مقدمة مسرحيته "كرومويل" (Cromwell)، ميز ثلاث حقب في تاريخ التعبير الفني الإنساني: الأولى بدائية ذات طابع غنائي (lyrisme)، والثانية قديمة ذات طابع ملحمي، والثالثة حديثة ذات طابع درامي؛ لذلك دعا إلى دراما حديثة تتخلي عن قواعد المسرح التقليدي، وعن ثنائية التراجيديا والكوميديا، وعن اللغة الشعرية الخالصة، كما دعا إلى الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والزمنية.

    المسرح في العصر الوسيط ا لأستاذ عبد الواحد المرابط   يقع العصر الوسيط بين العصر القديم والعصر الحديث، حيث بدأ مع سقوط الإمبراطورية...